ملحق كتاب التربية (برنامج نموذج لمادة العربية) لألمختار المختاري 'الزاراتي'
- zaratimoukhi
- 18 juil. 2022
- 44 min de lecture

نموذج مثال لبرنامج تدريس مادة الأدب الوطني
* نكون علميينوعمليين في طرحنا نقدّم المثال الخاص بتدريس مادة العربية*
باعتماد النماذج الأدبية المعاصرة (وحتى غير المعاصرة نتيجة اختلاف الأذواق أيضا الإطلاع الشخصي ربما الأكثر انفتاحا وتعمقا من خلال تخصص شخصي ناتج عن هواية شخصية وولع بالأدب)في تونس والمغرب العربي والعربي والإنساني الكوني. وما يمكن أن تضيفه للتلميذ كما للمدرّس من التصاق بالواقع الشيء الذي يجعل من هذه المادة لا فقط محببة بل وذات أبعاد نعددها في عناصر سريعة:
فتونس تميزت خلال مسيرة الأدب والشعر عامة بالتطور المرحلي الطبيعي والعقلاني.
إذ هي كانت أول المدارس العربية التي حافظت على المدونة الأدبيّة وناقشتها علميا وعقلانيا (طبعا بمقاييس علوم العصر والعقلية المحافظة السائدة ولو بكثير من الخصوصية التي تنبع من تفوق مدرسة الجامع الأعظم الزيتونة أو المقام الرفيع لجامعة القيروان من جامعها عقبة ابن نافع الفهري التونسي) لذلك نجد في مكتبتنا أول كتاب يعتبر قانونا لممارسة سلطة النقد على الشعر والأدب ونعني به كتاب ابن رشيق القيرواني (العمدة).
ومنه نتفطن إلى أن الجامعتين الزيتونية وعقبة على أيامهما كانتا توليان الأدب اهتماما كبيرا وتحميه من الاندثار والتشويه وتدرسه بأسلوب علميّ عقلاني غاب عن بقاع كبيرة من أقطار العرب آنذاك. حتى أننا نجد قائمة كبيرة من مشايخ وعلماء دين وأئمة كانوا من البارعين المجيدين في الشعر والأدب بالإيالة التونسية.
ونجد أول بذور التطور ومواكبة العصر والخروج عن التقاليد وما يعتبر قواعد ثابتة غير متحركة وما يشبه الديني المقدس مع عصر برز فيه كعلامة فارقة لإجادته الكبيرة أبو القاسم الشابي والذي لم يكن وحده الذي شقّ عصى الطاعة بل كان يقود قاطرة من المحدثين اللذين منهم من عاصر لكنه لم يجد له مهربا من براثن سلطان الغالبية بينما كان لحركة أبلو بمصر التي راسلها أبي القاسم دورها المميز في إبراز هذا الحراك التحديثي في مضمونه المحافظ شكلا ووعاء للقصيد العربي العمودي. وكانت مجاميع من الداخل الوطني تجتهد كلّ في فضاء لبعث روح جديدة تعاصر وتواكب مستجدات الوطن والإنسان فيه. حتى أثر ذلك في مستقبل القصيد والنثر ليحدث ما رغب من تطور وتحديث.
ونصل إلى علامة أخرى فارقة في حياة الأدب التونسي وهي جماعة تحت السور (الساخرين واللذين تميزوا بسخريتهم الكبيرة ومن العلامات الفارقة حضور الزجال الكبير 'بيرم التونسي' لفترة مهمة بينهم قبل نفيه مجدد.
لنجد ثورة الستينات الأدبية والمتمثلة في مجموعة الطليعة الأدبية 'في طرحها المختصر في عنصر في غير العمودي والحرّ' والتي بعد تذبذب تأكد حضورها وغلبتها في السبعينات بعد معارك كبيرة مع المحافظين ليرث الأدباء المعاصرون كمّا من التحديات جعلت من السهل عليهم الذهاب نحو تطور جديد المختصر في عناصر من قبيل. (الحداثة وما بعد الحداثة) إلى غير ذلك من العناصر البحثية التعبيرية الأدبية التي نعيش غمار تجاربها.
وما يشدّ اهتمامنا ونحن ندرس الأمثلة الكثيرة للعناصر النوعية في تاريخنا وحاضرنا من المبدعين غلبة عنصر المربي المبدع بما يعني أنّ كمّ وطائفة كبيرة على مرّ العصور ممن انتصبوا وامتهنوا التدريس كانوا من المبدعين الكبار اللذين دخلوا تاريخ الأدب من بابه الكبير ودونوا أسمائهم بماء الذهب على ستائر كعبته.
وبهذا المدخل الشديد الاختصار ندخل عالما النماذج نبوبها ضمن عناصر نوردها تباعا.
وليكون منطلقنا من ما لا نجد له أثر في كتبنا المدرسية رغم أنه من النصوص الملهمة الشارحة لماهية الشعر والأدب وهي أرضية خصبة لا لتدريس اللغة بل ولمفاهيم رئيسية للشعر والأدب. ونسوق منها مقتطف من الخيال الشعري عند العرب لأب القاسم الشابي.
الإهداء
إلى حضرة الوالد الكريم
الشيخ سيدي محمد بن بلقاسم الشابي الذي رباني صغيراً، وثقفني كبيراً،وأفهمني معاني الرحمة والحنان، وعلمني أن الحق خير ما في هذا العالموأقدس ما في هذا الوجود! أتقدم بهذه الصفحات التي هي أول عمل أخرجتهللناس. وأنا أرجو أن أكون قد توَخيتْفيها صراحة الصدق وجمال الحقيقة.
كلمة المؤلف
»لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب، ومن يتطلب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة … أما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور الساخرة«.
هذا الكتاب هو المسامرة التي ألقيتها بقاعة الخلدونية في العشرين من شعبان السنة الماضية، قدمتها للطبع دون أي تنقيح أو زيادة أو حذف، إلا ما كان من التعاليق التي شرحت بها ما يمكن أن يشُكِلَ لَفْظُهُ أو يبُهِْمَ معناه، حتى يكون القارئ على بيَّنةٍ مما أردت قوله أو دَلَلْتُ به، وإن كنت أعلم أن كثيراً من الآراء التي بها في حاجة إلى الشرح والبيان والتعليل، وربما إلى زيادة التمحيص والبحث ولَعَلي أعود إليها بالنظر في مقتبل الزمن إن سمحت بذلك الأقدار، أما الآن فحسبي أني لَبَّيتْ بطبعها رغائب إخواننا الكثيرين من الشباب الناهض المستنير الذي لم أخُط كتابي إلا لأخاطب فيه حماس الفتوة، وأدعوه معي إلى أن نسلك بالأدب التونسي سبيل الحياة الجميل المحفوف بالأوراد والزهور.
أبو القاسم الشابي
**وقد قلت من قبل إن الخيال ينقسم في نظري إلى قسمين: قسم اتخذه الإنسان لا للتنويق والتزويق ولكن ليتفهم من ورائه سرائر النفس وخفايا الوجود، وهو هذا الخيال الذي نلمح من خلفه ملامح الفلسفة وأسرة الفكر. ونسمع من ورائه هدير الحياة الكبرى يدَوي بكل عنف وشدة وهو هذا الفن الذي تندمج فيه الفلسفة بالشعر ويزدوج فيه الفكر بالخيال. وقسم اتخذه الإنسان أولاً ليعبر به عن ذات نفسه حين لا يجد لها مساغًا في الحقيقة العارية، ثم تطور هذا النوع مع الزمان فكان منه هذا النوع الذي نعر فهو الذي ألُفت فيه كتب البلاغة على اختلافها. قلت هذا من قبل ولكنني أردت أن أقول الآن إنني أسمي هذا القسم الأول (بالخيال الفني) لأن فيه تنطبع النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على هذا العالم الكبير، وأسميه (بالخيال الشعري) لأنه يضرب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور. أما القسم الثاني فإنني أسميه (الخيال الصناعي) لأنه ضرب من الصناعات اللفظية، وأسميه (الخيال المجازي) لأنه مجاز على كل حال سواء قصد منه المجاز كما عندنا الآن أم لم يقصد منه كما عند الإنسان القديم. وبعد هذه الكلمة فأي نوع من أنواع الخيال أريد أن أبحث عنه عند العرب فللخيال نواحٍ كثيرةٍ. هل إنني سأبحث عن الخيال الفني أو عن الخيال الصناعي؟ وهل إنني سأعرض له من وجهته الصناعية البحتة التي تتناول المجاز والاستعارة والتشبيه ومبلغ قوة العرب في هذا الضرب من الكلام؟ أم إنني سأبحث في المجاز والاستعارة والتشبيه من ناحية أخرى هي تطور هاته ألتماجزَاتِ مع العصور وإتباعها سنة النشوء والتدرج من حسن إلى أحسن ومن صالح إلى أصلح وأثر الشعراء والكُتاب في تطور هذه المجازات ورقيها واصطباغها بألوان العصور المختلفة التي ارتقت معها في سلم الحياة، أم ماذا؟
لا أريد أن أعرض للخيال من وجهته الصناعية، لا من هاته الناحية ولا من تلك؛ لأن لمثل هاته المباحث هواتها وأنا لست منهم — والحمد لله — ولأن كلا من هاتين الناحيتينٌّ جامد جاف في نظري لا غنية فيه ولا جمال، ونفسي لا تطمئن إلى مثل هاته المباحث الجافة ولا تحفل بها.
َّ ثم لأن مثل هاته المباحث لا يمكننا أن نستشف من ورائها خوالج الأمة ولا مشاعر الشعب ولا نستطيع أن نلمس في جوانبها ذلك النبض الحي الخفوق المترنم بأنباء النفس الإنسانية وأهوائها، ولا أن نعرف مقدار شعورها بتيار الحياة كعضو حي في هذا الوجود وأي فائدة من بحث قائم لا ينير سبيلًا؟
إنما أريد أن أبحث في الخيال من ذلك الجانب الذي يتكشف عن نهر الإنسانية الجميل الذي أوله لا نهاية الإنسان وهي الروح وآخره لا نهاية الحياة وهي ﷲ. أريد أن أبحث في الخيال عند العرب من ذلك الجانب الذي تتَدَفقُ فيه أمواج الزمن بعزم وشدة، وتنهزم فيه رياح الوجود المتناوحة مجلجلة داوية جامحة، وتتعاقب عليه ظلمات الكون وأضواؤه و أصباح الحياة وأمساؤها؛ ذلك الجانب الذي يستلهم ويستوحي، ويحيا ويشعر، ويتدبر ويفكر، أو بكلمة مختصرة إنني أريد أن أبحث عند العرب على ما سميته خيالاً شعريٍّا أو
خيالاً فنيٍّا.
فالخيال بهذا المعنى الذي بسطته وعلى هذا اللون الذي تكلمت عنه هو الذي أريد اليوم أن أتلمسه في جوانب الحياة الفكرية العربية، وهو الذي أريد أن نتعرف إليه فيما أبقى لنا أجدادنا الأقدمون من تراث روحي ضخم وثروة أدبية طائلة حتى نعرف ماهي عليه من قوة وإنتاج، ولأجل هذا فإنني لا أقُْصر بحثي على ما أبقاه العرب من شعر ونثر ليس غير؛ بل إنني سأجتاز هذين إلى قسم آخر هو كالشعر صورة مغرية من صور الخيال ولون قوي من ألوان التفكير الإنساني في دور من أدوار الحياة. بل ربما لا أغلو في كثير ولا قليل إن قلت إنه أقوى دلالة من الشعر على هذا الضرب من الخيال الذي جئت للحديث عنه. أما هذا القسم الآخر فهو الأساطير وأما أنه أقوى دلالة من الشعر فلأنني أذهب إلى أن الأساطير هي الكلمة الأولى التي توَجسها الإنسان من تعابير الحياة وحاول أن يتفهم منها معاني هذا الوجود المتناقضة وأنها هي الصوت الأول الذي رن بين جنبيه من أصوات الفكر وأجراس الشعور، أو بعبارة أدنى إلى الذهن إنها طفولة الشعر في طفولة الإنسان وما كان مصدره الطفولة الساذجة فهو أدنى إلى الطبع وأدل على النفس من أي شيء آخر لأنه يلقى بريئاً من كل كلفة أو تصَّع بعيدًا عن كل زخرف أو تمويه،وعلى هذا الضوء الذي أرجو أن ينير لنا سبل الحق ويمزق أمامنا غياهب الشك والجهالةِّ نحاول أن نمشي في هذا الدرب المتعرج الملتوي لعلنا نظفر خلف هذه الظلمات المتدجية والضباب المركوم بشمس الحقيقة الساطعة وفجر الأمل المنشود، وإن كنت لا أدري هل إننا سنسمع غماغم الخيال الشعري في صحراء العرب وسنلمح طيفه الجميل هازجًا فيتلك الجزيرة النائية؟ أم أننا لا نبصر غير ظِلهِ تائهًا تحت أشعة الشمس المحرِقة ولانت بين إلا آثار قدميه فوق الرمال؟ ومن يدري …؟ ولكن فلنحتقب على كل حال حقيبة الصبر والأمل في هاته الرحلة الغامضة ولنبدأ سيرنا على اسم ﷲ.
الخيال
· نشأته في الفكر البشري.
· ما كان يفهم منه عند الإنسان الأول.
· انقسامه
· قد أراد النادي الأدبي لجمعية قدماء الصادقية أن أتحدث عن (الخيال عند العرب)، وقد لَبَّيتْ هذا الطلب لأنه صادف من نفسي هوًى طالما نازعتني إليه، وللحديث عن الموضوع وقفتُ منكم اليوم موقفي هذا.ولكن قبل أن أحدد الوجهة التي سأتبعها في هذا البحث، أريد أن أبسط لكم رأيي في»الخيال« في نشأته، وفي انقسامه، وفي ما كان يفهم منه. فأقول: إن لي رأياً في الخيال لا أدري هل تشاطرونني الإيمان بصحته، أم تؤمنون ببطلانه؟ ولا أعلم هل انفردت بالذهاب إليه، أم سُبقت إلى اعتقاده؟ ولكن الذي أدريه هو هذا: أنني مؤمن أشد الإيمان بصحة هذا الرأي الذي أرتئيه، ومُعتقِدٌ كل الاعتقاد أنه حق لا ريب فيه، وأنني لهذا الإيمان ولهذا الاعتقاد أردت أن أعرضه عليكم بين يدي هذا الحديث. وهذا الرأي ينحصر فينقطٍ ثلاث إنْ أبَنَّاها أشرق الرأي واتضح المراد.النقطة الأولى: هي أن الخيال ضروري للإنسان لا بد منه ولا غُنيْةََ عنه، ضروري له كالنور والهواء والماء والسماء، ضروري لروح الإنسان ولقلبه، ولعقله ولشعوره، مادامت الحياة حياة والإنسان إنساناً. وإنما كان كذلك لأن الخيال نشأ في النفس الإنسانية بحكم هذا العالم الذي عاش فيه الإنسان وبدافع الطبع والغريزة الإنسانية الكامنة وراء الميول والرغبات، وما كان منشؤه الغريزة ومصدره الطبع فهو حي خالد، لا ولن يمكن أن يزول إلا إذا اضْمَحَل العالم وتناثرت الأيام في أودية العدم.النقطة الثانية: هي أن الإنسان الأول1 حينما كان يستعمل الخيال في جمله وتراكيبه لم يكن يفهم منه هاته المعاني الثانوية التي نفهمها منه نحن ونسميها (المجاز)، ولكنه كان يستعمله وهو على ثقة تامة لا يخالجها الريب في أنه قد قال كلامًا حقيقيٍّا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فهو حينما يقول مثلًا:(ماتت الريح) أو (أقبل الليل) لم يكن يعني منه معنى مجازيٍّا، ٍّوإنما كان يعتقد أن الريح قد ماتت حقا وأنا لليل قد أقبل حقا بألف قدم وبألف جناح. يدل لذلك ما في أساطير الأقدمين من أنهم كانوا يؤمنون بأن الريح والليل إلهان من الآلهة الأقوياء … وتلك هي سُنَّ ةُ الأقدمين في ما حولهم من مظاهر الطبيعة ومشاهد الوجود ينفخون فيها من روح الحياة على ما يوافق مشارب الإنسان وطبيعة تلك المظاهر، حتى إذا ما استفادت (أنُسَ الحياة)وأصبحت تشاركهم في بأساء الدهور ونعمائها وتساهمهم أفراح الوجود وأتراحه —على ما يخالون — ذهبوا يقيمون لها طقوس العبادة وفرائض الإجلال، فإذا بها آلهة خالدة بين آلهتهم الخالدة … وما أكثر آلهة الإنسان عند الإنسان … وهذا أعظم دليل على أن الإنسان متدين بالطبع، فهو ظامئ إلى منبع الحياة الأول الذي كرعت منه الإنسانية على كَر العصور مشاربها المختلفة ما بين صفو وعكر … حتى إذا ظفر برَشْفة منه اطمأنَّ ت نفسه وقر ضميره.فقد رأيتم هذا المجهود الخيالي العظيم الذي يبذله الإنسان لإرواء نفسه، وهو يحسب أنه الحق الأزلي الذي لا ريب فيه، وإلا فهل كان يطمئن إليه ويقيم له فروض العبادة وهو يعلم أنه من زخرف الخيال الشارد ووحي الأوهام المعربدة؟
· النقطة الثالثة: هي أن الخيال ينقسم إلى قسمين: قسم اتخذه الإنسان ليتفهم به مظاهرا لكون وتعابير الحياة، وقسم اتخذه لإظهار ما في نفسه من معنى لا يفصح عنه الكلام المألوف. ومن هذا القسم الثاني توَلدَ قسم آخر ولدته الحضارة في النفوس أو ارتقاء الإنسان نوعًا ما عما كان عليه، وهذا القسم الآخر هو الخيال اللفظي الذي يراد منه تجميل العبارة وتزويقها ليس غير. والقسم الأول هو أقدم القسمين في نظري نشوءا في النفس؛ لأن الإنسان أخذ يتعرف ما حوله أولاً حتى إذا ما جاشت بقلبه المعاني أخذ يعبر عنها بالألفاظ والتراكيب، ولما مارس كثيراً من خطوب الحياة وعجم كثيراً من ألواء الدهور وامتلك من أعِنَّةِ القول ما يقتدر به على التعبير عما يريد، أحس بدافع يدفعه إلى الأناقة فى القول والخَلَابة في الأسلوب، فكان هذا النوع الجديد من الخيال، هذا النوع الذي عمد إليه الإنسان مختارًا، فكان منه المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها من فنون الصناعة وصياغة الكلام.
· ولزيادة البيان عن هذا الفكر الذي أريده أقول: إن الإنسان شاعر بطبعه، في جِبلته يك من الشعر وفي روحه يترنَّم البيان. إذ أي إنسان لا يهتاجه المنظر الساحر والمشهد الخلاب، وأي امرئ لا يستخفه الجمال في أي مظهر من مظاهره وفي أية فتنة من فتنه؟
ولكن الناس يتفاوتون في إدراك الجمال والشعور به على حسب قوة هاته الغريزة الشاعرة أو ضعفها، فمنهم من تضعُف فيه هاته الغريزة ضعفًا بيَّناً حتى توشك أنتموت؛ لأن نفسه قد استحوذت عليها غريزة أخرى شغلت كل ما بها من فراغ. ومنهم من تقوى فيه هذه الغريزة حتى تتمرد فتطغى على كل ما عداها من الغرائز البشرية المتطاحنة. لأن النفس الإنسانية مضمار رحيب تتقارع فيه الغرائز وتتصارع فيه الميول والشهوات،وبقوة هاته الغريزة أو ضعفها يتفاوت الإحساس والشعور فيتفجر الشعر الخالد من بعض الأفئدة البشرية على حين أن الأخرى لا ترشح بغير الصديد. وتتكشف بعض النفوس عن عبقريات جبارة عاصفة على حين أن البعض الآخر لا يلد غير الغباوة المستخذية النائمة.ولكن قوة هاته الغريزة أو ضعفها هي في كثير من الأحيان وليدة الحوادث والظروف.فرُب دمعة يائسة أيقظت ألف عاطفة نائمة ورُب ابتسامة حالمة أهاجت سواكن الوجود… ورُب مشهدٍ رائع أحيا عبقرية خالدة، ورُب فكرة واحدة صدعت أركان قلب كبير …وهكذا هبط الإنسان هذه الأرض مُزَودًا بتلك الغريزة الشاعرة فكانت هي الأمل الجميل الذي ينير له مسالك العيش ويمهد له سبل الحياة. وكانت هي الخيبة القاتمة التي تقذفه في هُوةِ اليأس وتشُقيه في نار الألم. كذلك هبط الإنسان الأرض لا يملك غير حِسهِ ونفَسِهِ وغير قلبه وشعوره، أما عقله فما زال يحلم في مهد الحياة … فكأن له من مشاهد الكون ومظاهر الطبيعة ألغازًا غامضة ومعاني مستترة، تبدو له ملتفَةً في ثوب من ضباب كما تبدو الذكريات القَصِيَّةُ في زوايا القلوب حتى إذا ما حاول أن يمسكها توارت عنه كما تتوارى الأشباح، وكان فيما بينها كالنائم السادر في أحلام الليل ورُؤاه تبهجه هذه وتبكيه تلك وتفزعه واحدة وتسكنه أخرى، ولم يكن له من عقله في تلك الساعة ذلك العقل القوي الجبار الذي عَب من نهرا لحياة المندفع فاشتد أسره وتوثَّقَت قواه، بل كان عقلًا ضعيفًا واهناً متهدمًا لم تضرسه الحياة ولا علمته الخطوب.وما كان الإنسان بخامد النفس ولا هامد الحس حتى يغضي على ما حوله زاهدًا فيهو يقنع بالجهل الأخرس والصمت الكئيب، َّ بل كان قوي المشاعر متحفز الخيال. فذهبي علل مظاهر الكون بما شاء له الشعر أن يذهب، وأخذ يفسر تعابير الطبيعة الداوية بما يملي عليه الخيال المرح والشعور النشيط، دون أن يعَْلَقَ بوَهْمِهِ قَ ُّ ط أنه سادرٌ في الخيال بعيد عن جدد الحقيقة، وإنما كان على ثقة ويقين من أن ما وصل إليه هو في الصميم من الحق وفي الحبة من الصواب، ومن هنا كانت بذور الأساطير الدينية الأولى تثمر في النفوس وكانت المعتقدات الوثنية تتكون في أعماق القلوب تكَونَ الجنين في بطن أمه. وهذا هو منشأ الخيال في الفكر البشري القديم قبل أن تصقله الحضارة وتشذبه المدنية.وكانت تعوزه الألفاظ أحياناً للتعبير عما يجيش بنفسه من فكر وعاطفةٍ وشعور وليدٍ، فكان يتخذ من الخيال مطايا لأغراضه وأجسادًا لمعانيه دون أن يخطر بباله أنها ستعمل تلك الجملةأو الكلمة في غير ما وُضعت له — كما يقول علماء البلاغة — لأنه واثق أنها مستعملة في وضعها الطبيعي الذي (لا تمزج فيه) ولو شئت أن أسوق الكلمات تباعًا لهذا الغرض لضاق الوقت وما تم الحديث، ولكنني سأكتفي ببضع كلمات أتخذها دليلًا على مدعاي، من ذلك ما قدمته من قولهم:»أقبل الليل، وماتت الريح«، ومن ذلك »ابنة الجبل«، فإن هاته الكلمة يطلقها العرب ويريدون منها الصدى، وأنا أعتقد أن هذه الكلمة أسبق وجودًا في العربية من الصدى لأن المعاني الخيالية أقرب إلى ذهن الإنسان الأول من المعاني الحقيقية، وأعتقد أيضًا أن واضع هذه الكلمة كان يحسب أن الصوت الذي أجابه صوت جنيَّ ة من بنات الجبال فسماه بهذا الاسم. وهل ينُكَرُ مثل هذا على عربي قديم لعلهَّ عاش قبل هذا العصر بآلاف القرون وبين أيدينا ما يؤيد ما ادعَيتْهُ من أن الخيال يعتبر حقيقة في أول نشأته ولا يعد خيالاً، فإنني أعرف لحد الآن في بعض بوادي المملكة من لو سُئلَ عن الصدى لأخبر — بجد — أنه شيطان يهزأ بالبشر ويسخر من أبناء آدم. وأعرففي بعض جهات الجنوب من يسمون الصدى:»حديدان« وإذا استفسرتهم عن (حديدان)هذا، نبؤوك أنه شيطان يسكن الجبال والأودية … ومن ذلك كلمة »الريح« فإنني لا أشك أن أصل هذه الكلمة كان الروح وأن واضعها كان يعتقد أنها واحدة من الأرواح الخفيةِّ المتجبرة ثم وقع فيها التصحيف على تراخي الزمن حتى أصبحت »الريح«، يدل ذلك أنهم جمعوها على أرواح كما جمعوا الروح هذا الجمع وأنَّ ثوُا معناها كما أنثوا الروح لأنثوا جميع الكلمات التي تدل على معنى الريح. ثم ألا ترون هذا التقارب الكبير بين مرادفات الروح ومرادفاتها؛ فإنهم قالوا النسمة والنسيم وقالوا النفس والنفس، وليس هذا بمستبعد عن الذهن البشري القديم، فإن من أساطير الإسكنديناف:
· أن الزوبعة إله من الآلهة الأقوياء يسمونه:»آجير«، وقال توماس كارليل إن البحارة في جنوب إنقليترا لم يزالوا لعهده إذا أحسوا بوادر الزوبعة يقولون:»حذار! إن آجير قادم.«وصفوة القول أن الإنسان مضطر إلى الخيال بطبعه، محتاج إليه بغريزته؛ لأن منه غذاء روحه وقلبه ولسانه وعقله. وأن اضطراره إليه جعله في نظره الأول حقيقة لا خيالاً،وما أصبح يعرف الخيال من الحقيقة إلا بعد أن تطورت نظرته إلى هذه الحياة وأصبح يعرف أن الليل والنهار والعواصف والبحار ليست أرواحًا ولا آلهة، وإنما هي مظاهر لهذا النظام الإلهي العتيد الذي يسخر كل شيء.ولكنه رغم كل ذلك لم يزل بحاجة إلى الخيال لأنه وإن أصبح يحتكم إلى العقل ويستطيع التعبير عن خوالج نفسهفهو لم يزل يحتكم إلى الشعور، وسيظل كذلك لأن الشعور هو العنصر الأول من عناصر النفس، واحتكامه إلى الشعور يدفعه ولا بد إلىِّ استعمال الخيال؛ لأن الشعور أيها السادة هو ذلك النهر الجميل المتدفق في صدر الإنسانية منذ القدم، مترنمًا بأفراحها وأتراحها، متغنياً بميولها ورغباتها، جائشًا بكل ما لها من فكر وعاطفة، ومن ضجة وسكون. ومن هذا النهر الجميل تتولد خرائد الفكر وبنات الخيال، كما نشأت »فينيس« من أمواج البحار الناصعة، وعلى ضفافيه يرَتِّ لْنَ للبشرية ترانيم الحياة، ويفُسرْنَ تعابير الوجود، ويفكرن في مآتي الحياة والموت وفي معاني الخلود والعدم.أجل! فهو رغم كل ذلك لم يزل بحاجة إلى الخيال لأن اللغة مهما بلغت من القوةوالحياة فلا ولن تستطيع أن تنهض — من دون الخيال — بهذا العبء الكبير الذي يرهقها به الإنسان، هذا العبء الذي يشمل خلجات النفوس الإنسانية وأفكارها وأحلام القلوب البشرية وآلامها وكل ما في الحياة من فكر وعاطفة وشعور، بل إنها لا تقتدر على الاضطلاع بهذا الحِمل الثقيل حتى بالخيال وإنما الخيال يمدها بقوة ما كانت لتجدها لولاه.وكيف يتصور من هذه اللغة الخامدة التي منشؤها هاته المادة الباردة أن تحمل بينِّ جنبيها ذلك اللهيب المقدس المتدفق من أبعد قرار في النفس الإنسانية الخالدة بكل ما فيه من توهج وتألق وضياء؟
· فهل تريدون أن تسمعوا من الصخرة الصماء أناشيد الملائكة؟ أم هل تريدون أن
(توقعوا على ناي من القصب أنغام الفلك؟)!
إن اللغة البشرية لأَصغرُ وأعجزُ من أن تحمل مثل هذه الأمانة السماوية مهما بلغتُّ من الرقِ ِّ ي والتقدم لأنها ضيقة محدودة فانية والنفس الإنسانية فسيحة لا نهائية باقية.وستظل اللغة في حاجة إلى الخيال لأنه هو الكنز الأبدي الذي يمدها بالحياة والقوة والشباب، ولكنه مهما أمدها بالقوة والشباب فستبقى عاجزة عن استيفاء ما في النفس الإنسانية من عمق وسعة وضياء
…
*هوامش
(1) نريد بالإنسان الأول حيثما أطلقناه، ذلك الإنسان الذي ما زال على فطرة الطبيعة الأولى سواء في ذلك من أظله الدهر الدابر أو من ما زال يستنشي نسيم الحياة.
وليس بالغريب أن نقرأ ما كتبه ابو القاسم الشابي في نصه هذا إذا ما اطلعنا على ما يكتب من أدب في عصره من بحث عن ذات وطنية ونورد على سبيل الذكر لا الحصر قصيد مثال للشاعر والأديب مصطفى خرَيّف هو مصطفى بن إبراهيم خريف،
وتوفي بمستشفى شارل نيكول بتونس العاصمة في 11 مارس 1967
ابن "الكوفة الصغرى"،وهو الاسم الذي عرفت به مدينة نفطة لشدة تعلق أهلها بالعلم وتخصيصا الأدب وعلوم الفقه والشريعة أيامها.وننتخب لكم هذا القصيد للتدليل:
قصيدة: حورية الموج** شف صدر البحر عن سر الجلال
وطفت فيه اللآلي
فوق موج فاض من سحر الجمال
فاق تصوير الخيال
جال في حسن وإشراق مستجيشا مثل أشواقي
حين أكسوها بديعا من بياني
هل على صدرك فاضت موجتان
بالهوى ترتعشان؟
تلك أم أزهار آس تتفتقْ
في أديم لاح أزرقْ
أم نجوم في سماء تتألقْ
وتغني وتصفقْ ؟
محفل جاء يحيّـيك ويناجيـك ويـفـدّيك يا عذارى البحر أنتن لديها
فتسابـقن إذن بين يديها
وتهافتن عليها
أقبلتْ ترقص تيها وتغني
نغما من كل فنِّ
فيه حب ودلال وتجني
وحلاوات التمني
في بياض ناعم طاهرْ واهتزاز فاتن باهرْ وهي تستهديك نزرا من فتوتك
فامنحيها نبرات من حنينكْ
وشعاعا من جبينكْ إيه يا حورية َ المـوج إليا
والعبي بين يدبا
أسبحي واطوي عباب البحر طيا
لا تخافي منه شيَّــا
إنه مثلي عميدٌ صَبْ ذو فؤاد زاخر بالحبْ مغرمٍ بالحسن من قبلي وقبلِكْ
هذه الأمواج قد وافت لأجلكْ
تبتغي تقبيل رجلِكْ . وارتمينا في انقباض وامتدادِ
وامتزاج واتحادِ
وهي تنزو بابتهاج وتنادي
فيلبّيها فؤادي :
يا حبيبي أنت لي وحدي فاقترب واشمم شذى نهدي وارم بي للموج وارجع فالتقني
واحتضني واعتقنني واختطفني
والتقمنيوارتشفني ."
مصطفى بن إبراهيم خريف
* وكما أسلفنا فإننا نركّز في عملنا هذا على المنسي المتروك لنبرزه للعيان فالمعروف هو معروف بطبعه لكثرة الاستعمال حتى غدى شبيها بالمسلمات التي مجّها التلميذ قبل المربي. لذلك نذهب إلى وجه آخر وهو الأدب الساخر الذي كان تعبيره حيّة وملتصقة بواقعها وصيغة أدبية لرفض لواقع بكامل أسلحته ومنه الواقع الاستعماري من جهة والوطني من جهة ثانية لمرحلته وأيامه. إذكانوا على وعي بضرورة تطور التعليم في مجتمع غاب عنه التطور فاستعمر فالتعليم يجب أن ينتهي بالمتعلم إلى وظيفة أما إذا انتهى به إلى البطالة فما الجدوى منه؟
فنحن نعلم أن التعليم في تلك الفترة كان على غاية من التدني وقد نادى الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (1973/1879) بضرورة إصلاح التعليم الزيتوني في كتابه الشهير " أليس الصبح بقريب" الصادر سنة 1910 وأضرب طلبة الجامع سنة 1929 وصدرت مطالبهم في لائحة حررها محمد صالح المهيدي وكتب الطاهر الحداد كتابا كاملا عن إصلاح التعليم الزيتوني وكتب محمد المهدي بن الناصر ( 1967/1897) عدة مقالات في الغرض إضافة إلى تدهور أوضاع المجتمع الاقتصادية وهذا الصوت الساخر الجديد الطارئ قاد قاطرته جماعة أطلق عليها عنوان رمز وهو جماعة تحت السور.
ولا يمكن أن نمرّ بهذه الجماعة بدون أن نذكر شيخ وقائد كتيبة الزجالين في تونس التي نفي إليها وقتها من البلد الذي هاجر إليه أبائه فعاش فيها بمكوناته التونسية التي تربى عليها في أسرته والتي جعلت منه
لسانا صريحا واضحا صادحا بالحقّ رغم السخرية المرّة التي جعلها رمز صدقه. ونعني به بيرم التونسي. والذي ننتخب له قصيده الزجلي الرائع الشهير:
قصيد المجلس البلدي لبيرم التونسي
قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ والكَمَدِ
هوى حبيبٍ يُسَمّى المجلس البلدي
أمشي وأكتمُ أنفاسي مخافة َ أنْ
يعدّهـا عاملٌ للمجلسِ البلـدي
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى
طيف الخيالِ خيال المجلسِ البلدي
إذا الرغيفُ أتى ، فالنصف ُ آكُلُهُ
والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي
وإنْ جلستُ فجَيْبِـي لستُ أتركُهُ
خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي
وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا
في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي
كَــأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها
أوصَتْ فقالت : أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواجَ إذا يوم الزفافِ أتى
أن يَنْبَرِي لعروسي المجلسُ البلدي
ورُبَّمَا وَهَبَ الرحمنُ لي ولداً
في بَطْنِهـا يَدَّعيه المجلس البلدي
وإنْ أقمتُ صلاتي قلتُ مُفتتحاً
اللهُ أكبرُ باسم المجلـس البلــدي
أستغفرُ الله حتى في الصلاةِ غَدَتْ
عِبادتي نصفُها للمجلـس البلـدي
يا بائعَ الفجلِ بالمِلِّيـمِ واحدةً
كم للعيالِ وكم للمجلسِ البلدي
محمد العريبي من أصل جزائري ولد بنونس العاصمة في غرة مارس سنة 1915تابع دراسته بالجامع الأعظم جامع الزيتونة
وهو : ابن تومرت هذا الاسم أمضى به أشعاره أيضا شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء(1908\1977) وهو لقب مقتبس من القائد الإسلامي مؤسس الدولة الموحدية محمد بن تومرت المهدي (1077\1130) وهذه التسمية تدل على الاعتزاز بالانتساب إلى الجزائر؟ ورغم ذلك سنجد مايؤكد شدة حب العريبي لتونس وتعلقه بهاوبما أننا ذكرنا مفدي زكرياء فإن هذا الشاعر كانت له صلة بجماعة تحت السور ويشهد على انتمائه لهم قصيده " أمانا أيها الشعراء " هذا بعض ماجاء فيها :
سل الهادي (يقصد العبيدي) أيذكر كيف كنا نشاوى..مالمطمحنا حدود تميل بنا الصبابة للتصابي وتلهمنا البراعم والنهود.. نناجي عبقرا في ( السور) صبحا ويسكر ليلنا كأس وعود فأين ( السور ) والندوات فيه؟ وأين الأنس والعيش الرغيد؟
*وحين ينقم على الواقع يقول:
اختنق يافؤاد وانتحر يا ضمير ليس دنيا العباد مسرحا للشعور قد تلاشى النور كسر الأقلام مزق الاوراق ينض عنه السقام قلبك الخفاق بالعلا الموتور وارم بالأشعار في مهب الريح واصغ للأقدار واعن بالتسبيح للخنا والفجور الهنا والحبور وحياة السلام عند موت النور وليعم الظلام فجرك المسحور
ودفن بمقبرة الزلاج وقبره مهمل متروك ككل قبور أدباء بلادنا التي لا تحترم كتابها أحياء او أمواتا
الفنان : عاش يتمنى في عنبه مات جابولو عنقود مايسعد فنان الغلبه الا من تحت اللحود
المصور : يعمل تصويره يعرضها مايراها حتى انسان نفسو تعرضك تفرضها نفس رقيقة متاع فنان ماذا تعبها ومرضها لخدمة تخلدها الازمان يعيش تاعب ياسر فقري يكيدو شريان الالوان عاش مجهول في اوانو مات للشهرة والدود لايسمع شكران الوانو الا من تحت اللحود
الممثل: مثل اوديب وهملت وقيصر حتى عمرو قاصر يبدل بالستة كسوات ويروح عريان وحاسر لحزين تربح الالافات وهو اللي في الصفقة خاسر عاش في الانفي تياتر لكن عالمسرح يتجاسر مات عريان بلا زاد ومات وكينو مولود مايسمع شكر النقاد الا من تحت اللحود
الشاعر : عاش ينظم في الاغاني يتغزل في زين حليمة لا باتش في ليلة هاني ولا فرحش مرة بتبسيمة عدى وقتو في الاماني متكوسد وفالس ديمه يوصف في الجنة والغابة ويكيدو باش يشري ليمه يرثي ويمدح في الأكابر ويهني بسطاشنمولود ماسمعتشقالولو شاعر الا من تحت اللحود
الموسيقي : يعدي عمرو في الأعراس وهو في داخليتو حزين موسيقي رقيق الإحساس حساسو معلق في وترين متقنع ، يقلك : لاباس وظهروا متثقل بالدين ياكل في السيكةوالجركة ولباسو من لصبعين مابين قصيده وادوار وبين تقسيم ناي وعود مايتسمى موسيقار الا من تحت اللحود
نحن : احنا بهذومانحياو وماننكرش كثر نفعهم اذا عليهم نتخلاو نخافوالميزيريا تبلعهم هوم الساعة قريب يوفاو وقريب توفى - زاد - سلعهم كي نشجعهم باللي أمكن نمدو يدينا ونطلعهم ننفعهم وهوما حيين حتى بشوية وعود ونسميهم فنانين قبل مايزورو اللحود
علي بن صالح بن الحاج علي الدوعاجي سنة 1909 وتوفي سنة 1945 سئل عن نفسه قال :
كل ما أعرفه عن نفسي:
سألتني ايها الزميل المحترم ان اقدم لك شخصي في أسطر قليلة لانك تريد ان تكتب ترجمتي ضمن تراجم زملائي ( شعراء الاغنية التونسية ) وذلك لأن معرفتنا الحديثة والحديثة جدا لم تمكنك من معرفتي كما يجب ، ورغم ما شهرت به من دقة الملاحظة أرى أنه لك حق في ذلك . إذ لا يمكن الحكم على شخص من بضع أغان سمعتها تذاع له في الراديو او في صالات الطرب .
لكن أيها الزميل سؤالك هذا أحرجني . وكيف لا ، وأنا لم اسأل نفسي ماسألتها أنت ؟ أني لم أهتم بدراسة نفسي ولم أعتن بها لحظة . فكيف بي أن أقدم لك ما أجهله ؟ ولكن تلح أن أفعل ذلك . وأمام إلحاحك ليسعني إلا أن أتعرف على نفسي ،وسأضع أعمالي أمامي . كأنها عمل غيري . ولكني لا أعدك بأن أحكم عليها حكما صادقا ...ولكن أعدك بأني لا أحابي ( هذا الغريب ) كثيرا فلا تطلب أكثر من هذا أن هذا الغريب يعز علي ، واعتز به لأنه...انا...
أنا...اعني هذا الذي تطلب أن أقدم لك ترجمته أناني كل الأنانية، وصريح بعض الشيء. ويكفيه صراحة أنه اعترف بأنانيته، وهو ماينكره غيره دائما...بعد هذه المقدمة لا تعجب مما ستسمعه فإذا تساهلت في الحكم .. فذلك من انانيته ...وإذا قسوت ...فلا تعجب ايضا !! الم أقل إني صريح ؟!
لاشك أنك رأيت شجر ( الزبوس ) الذي ينبت في الجبال نتيجة قلب زيتون ألقته يد مجهولة ، فتكبر الشجرة وتثمر ، ولكنها لا تثمر ثمرا طيبا مثل أختها الزيتونة المغروسة باعتناء في غابات الساحل وصفاقس ، وهما من أصل واحد . هكذا نشأت.
نشأت ولم أجد حولي من يرشدني، أو حتى يقول لي : إنه يجب أن تتعلم ...فلم أتلق أي تعليم ...
لم أجد سوى والدتي التي ضحت لأجلي بكل ما يمكن للام ان تضحي به . فتعلمت منها الحب والتضحية ..ثم علمتني كيف أستعمل بصري أعني حواسي كلها، والتي أصبحت بفضل استعمالي لها أرسم وانظم وأقصالقصص،لم أجد الى اليوم النصوح الصادق الذي يقول لي : ان كان التعليم يحسن هذه الملكة ( ملكة الاعتماد على الحواس ) او يفسدها (la déformer ) .
ثم أني لم أجد في زاوية من زوايا نفسي شيئا آخر هو مايسمونه بالسنوبيزم بدون ان أريد به الظهور والشهرة ...فإذا خالفت المعهود فلاني اجد لذة في المخالفة . ويكفيني ذلك ! ألم أقل إني أناني؟ ! ...
وسبب ذلك عدم تعلمي التعليم المدرسي .فلم أتعود تتبع المدارس ( styles ) ..فإذا أضفت لهذا جهلي بها تجد السبب واضحا ...فأنا أنا لأنه لا يمكن ان أكون غير ذلك
" أما كيف انظم ؟ ومتى ؟ وأين؟ وأي أغان أخير؟ وأي القصص أصدق؟ فهذه أسئلة(البلوفBlouf ) تلقى على مشاهير الشعراء والكتاب للشهرة ...لا يجيب عنها ( متواضع ) مثلي ، لا يدري لماذا ينظم ويكتب هو نفسه ...
اما أهم حادث اذكره ؟ إنهما حادثان مازالا عالقين بذاكرتي . ومن التواضع الكاذب أن أقول إني أنساهمايوما . الأول عندما نشرت لي مجلة العالم الأدبيتأبيني للشاعر الزهاوي. ثم أراني صديقي وأخي محمد العريبي " ابن تومرت " مجلة سورية ( الجورنال الأسبوعي ) .وقد نقلت الأغلاطبأغلاطه، وأغفلت توقيعي، ولم تشر للكاتب ولا للمجلة الناقل بشيء . لقد سرني الا تنقل الجرائد السورية مقالا لتونسي، وان يكون هذا التونسي أنا.
والثاني أكبر إذ أذاع لي الراديو رواية ( سوء تفاهم ) عندما أعلمني المحترم السيد عثمان الكعاك ان الرواية ناجحة عند السميعة بدليل الإلحاح الشديد في طلب إعادتها. وهو نجاح لم أكن أتوقعه من قطعة متواضعة جدا مثلها.
هذا يبعث على الحيرة حقا وهو جهلي بنفسية الجمهور الذي يعجب أحيانا بقطع بسيطة مثل أغنية( نغير وقلبي يتكلم ) التي تغنيها السيدة فتحية .وإغفاله مثل أغنية ( الدمع مالي عيني ) التي تغنيها مطربات الرشيدية . وهي قطعة وجدانية تفوق الأولى بأضعاف الإضعاف. أو نجاح القطعة الاستعراضية ( الدنيا وفات ) التي كان الجمهور يطلب إعادتها اربع مرات في السهرة الواحدة . ولم أجد من يذكر ( اللي فات تعدى ) أو ( يالايمييزيني ) بخير أو بشر رغم أن المغنية واحدة وهي الآنسة شافية .
هذا هو علي الدوعاجي أحد أعمدة جماعة تحت السور الرئيسية ولكن في الضفة الأخرى للمدينة كان ثمة صوت مثّل منعرجا نحو صيغ جديدة استرعت انتباه المتعلمين من خريجي الجامعة التونسية اللذين فازوا بعلم حديث ومطمحهم تحديثي بحت وهم اللذين سنورد لهم بعد ان نذكر شاعر المنعرج وهو الشاعر الكبير الراحل منور صمادح والذي نورد أجمل قصيد ترك بصمته في أنفس جيل برمته ونعني قصيده
قصيدة كلمات لشاعر تونس الثائر الكبير المرحوم منور صمادح
عنــدما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات كنـــت أصـواتا بلا معنى وراء الكلمات وتخطّـــيت سنينــــا عثــرتهـــا الكلمات أركض الأحلام والأوهـام خلـف الكلمات ووراء الزّمــن الهــارب أعــدو الكلمات كـــلّ مــا أعرفــــه أنّي ظلمــت الكلمات وسمعت النّاس يصغون لصوت الكلمات فتكلّمـــت ولكـــن لـــم أفـــــدها الكلمات ليس بالهزل ولا بالجهل خوض الكلمات وتألّمـــت كثــيــــرا في جـــراح الكلمات وسفحت العمـر دمعا من عيون الكلمات ولقــــد مـــتّ مرارا في سبيــــل الكلمات صلبوهــــا ثمّ جـــاؤوا ورثـــوها الكلمات فصــدور النـّـاس قد كانــت قبور الكلمات يستجيــرون بها منها... وأيــن الكلمات بيــع ما فيهم من الحسّ فماتوا الكلمات كالدّمى الخرساء لا تعرف معنى الكلمات *** هي لحـــــــن بشــــريّ ردّدتـــــه الكلمات نغــــــم وقعـــــه الإلهـــــام يرجو الكلمات ورؤى سكرى تهادت في رياض الكلمات هي روح الكــون زخــار بفيــض الكلمات تتــــراءى حلمــا يقظــــان عبـــر الكلمات قل لمن همّهم في النّاس وخـاف الكلمات إنّمـــــا أنـــت شفــــــاه ظمئــــت للكلمات ونــــداء حــائر في الصّوت بـــحّ الكلمات آذك الصمـــت فهلاّ قلــت بعــض الكلمات أو تخشى الـــنّاس والحقّ سجين الكلمات حيــــــوان أنــت لا تفقـــه لــــولا الكلمات ونبـــات أو جمــــــاد أنـــت لـــولا الكلمات مـا الّذي ترجــوه من دنياك لولا الكلمات أنــت إنسان لـــدى النّاس رسول الكلمات فتكلّــــــم وتألّـــــــم ولتمــــت في الكلمات وإذا مـــا عشــــت فيــهم فلتكــــن الكلمات شاهــــــد أنت عليهــــم وعليــــك الكلمات *** يهــــدر الشّاعر في النّاس وتحيا الكلمات ويموتون بلا ذكرى وتبقى الكلـــــــــمات
وهذا القصيد يعتبر أجمل ما نختم به أمثلتنا عن هذه الحقبة وهذا النمط والتخصص والتعبير الأدبي النابع من صميم واقعنا الوطني.
لنذهب إلى موطئ قدم آخر في ساحتنا الوطنية الحقيقية الإبداعيّة. وهي موجة أخرى رتبت وضع واقعها المتحرّك ضمن وعاء ونموذج وخارطة قول خارقة به سائد زمانها ونعني بهم جماعة (في غير العمودي والحرّ) أو جماعة الطليعة الأدبيّة في تونس.
واخترنا مدخلا لهم حتى نبرز عناصر التطوّر صوتا شعريا كان من أكبر المدافعين وأشرسهم على أيامه على الحفاظ والمحافظة على عمود الشعر العربي وتاريخه الشكلاني المتمثل في بحوره الخليلية وعدم المساس بها على أنها القاعدة الأصل لكنه بعد فترة من الصراع سيكون له تجارب المغرم أيضا بالشكل الجديد الذي واكب عموم ومشاغل البلاد برمتها ناسا ومشاغل وطموح.
ونعني به الشاعر الراحل أحمد اللغماني.
قصيدة .. حضن الواحة `` للفقيد الراحل( أحمد اللغماني)
يمَّمتُ حِضنك والأشـواق تحدوني ** إن كنتِ مشتاقة مثلي فضُمّيني قدْ طــوّحت بي مقـاديري وها أنذا ** أعـــود حتى وإن لم تستعيديني هجرتُ حضنك مغرورًا على صغري ** إذْ كان طَيْشِيَ بالأسفار يُغريني رحلتُ ذات صبــــــاح مثلما رحلت ** عن الخمائل أسرابُ الحساسين وعشتُ عمري بعيـــــدا لا تُقرّبني ** منك الليالي ولا الأيّــــام تُدنيني يا واحــتي طُفتُ بالآفاقِ ملتمِسًا ** وَهْمًا يُـــراود أحـــــــلام المجانين ورُحتُ أغـزل أوهـــــامي وأنسِجُها ** فكان بُرْدًا ولكن ليس يكسُـــوني ورُحتُ أضرِبُ في الآفاقِ مُلتمِسًا ** حِضْنًا كحِضنك يُؤويني ويحميني فلا كحِضنِكِ بالتّـــرحيب يَحْضُنُني ** ولا كحبّكِ في يــــأْسي يُسلّيني ولا كنخلك في القَيْــظِ يُظلِّلُنــــي ** ولا كيُنْبُوعك الـــــرّقراق يــــرويني ولا كأهلك مُنَّــــــــاعي وحاميتي ** إن نَالَنِي الضَّيْمُ رَصُّوا صَفَّهُم دوني
كما نقتطف لكم نص لإبراز خصوصية الشاعر والشعر التونسي حتى وهو يغوص في ذات الوعاء الشعري التقليدي العربي المحافظ وحتى نبرز فيما بعد صميم معركة التطور والمعاصرة في حركة الطليعة الشعرية والأدبية:
جبن للشاعر الراحل كبير الزارات أحمد اللغماني
ماذا تقولون للأحفاد للشاعر الراحل الكبير أحمد اللغماني
1
حملت حبّك ذنبا غير مغفور * وكذبة من أكاذيب الأساطير
ونخوة في أحاسيسي وعاطفتي * وهاجسا لخيال غير منظور
فكنت حظّا ولكن غير مبتسم * وكنت سعيا ولكن غير مشكور
عروبتي، يا انحراف جدّ في سبلي * فضاع بي في طريق غير مسطور
رضعت حبّك من أثداء مرضعتي * فهل رضعت لبان الغشّ والزور؟
يا ليت ظئري ما ضمّت ولا حضنت * وليتها لم تكن حجرا لمحجور
وليت حبّك لم يحفر على كبدي * ولم يخطّط غضونا في أساريري
عروبتي، يا تناهيدي، ويا وجعي * ويا افتضاح معرّاتي وتشهيري
إنّي أحبّك مقهورا، وأيّ فتى * في حبّه غير مغلوب ومقهور...
2
ورثت مجدك مغرورا فأسكرني * هل كان مجدك تغريرا بمغرور؟
قرأته في سجلاّت تنام على * رفّ بزاوية النسيان مهجور
قرأته صحفا مصفّرة دفنت * تحت الغبار بأركان المقاصير...
حتّى سكرت، وكانت سكرتي مرحا * حينا وحينا تباريحا لموتور
وحين أصحو أحسّ الجرح في كبدي * وأجرع المرّ في أعقاب تخديري.
3
حملت حبّك ذنبا ما جنته يدي * ولم أجد كيف أمحوه بتكفيري
هل ما تزالين في عصر الفتوح وقد * رجّ الوجود على زعق المغاوير؟
هل ما تزالين سلطانا ومملكة * من الخليج إلى بحر الدّياجير؟
في كلّ مشرق شمس غزوة فتحت * صعقا بجيش عفيف منصور
وعند كلّ رباط فيلق ورع * يحمي الثغور بتهليل وتكبير
أما تحسّين جرح الكبر فجّره * تخاذل القوم فينا شرّ تفجير؟
أما تحسّين صفعا في كرامتنا * تكيله كفّ 'جنكيز' و 'تيمور'؟
أما تكفّن عن لغو وثرثرة * قد أقرفتنا بألوان التّعابير..؟
كفى بربّك، كفى، ليتها خرست * فصاحة جلّلت عار بتزوير
يا ليتني لم أصب يوما بجرثمها * ولا عرفت بها إدمان سكّير
أستغفر الله، والقرآن في لغة * تهلهلت بين تطبيل وتزمير
4
وأنتم – يا كرام العرق – يا أمل - * المستضعفين، ويا حصن الجماهير
ماذا تقولون عن أرض قد اغتصبت * وعن دم في ربى لبنان مهدور؟
وعن كتائب إسرائيل عابثة * بحرمة الّدين في المحراب والدّير؟
وعن شقيق لكم تلقى بقيته * بين الخرائب شلوا غير مقبور؟
مأساة لبنان هذي؟ أم جنازتنا * تسعى لقبر بسفح الهون محفور؟
5
ماذا تقولون للأحفاد عن نظم * محميّة بالسرايا والطوابير؟
جنودها تتلهى في معسكرها * بنفثه التبغ أو مصّ القوارير
وفي رمال الصحارى من ذخيرتهم * ما لو تفجّر كانت نفخة الصّور
ماذا تقولون للأحفاد عن عرب * باعوا عروبتهم من غير تسعير
أموالهم في بنوك الغرب فائضة * على صدور البغايا في المواخير
ونعمة الله نبع فائض أبدا * وهمعطاشى لتخزين وتوفير
والشعب ما بين مسحوق ومنبطح * وبين منتهز نذل، ومذعور
جويلية 1982
ومن أهم أيقونات الشعر الطليعي والصوت الذي بقي مرصودا من بين كوكبة منها من لا يزال على قيد الحياة والإبداع ومنهم من غادر سريعا وأول كوكبة المغادرين اللذين تركوا بصمتهم واضحة في قلوب رفاق مسيرته وصوته هو الشاعر المختار اللغماني الذي شابه ابو القاسم الشابي حيث وافته المنية عن عمر لم يتجاوز الرابعة بعد العشرين وكان قد تخرج حديثا وباشر التدريس حتى مماته ولم يدم وجوده في القسم سوى شهرين قمريين. لكنه لحظة رحيله اجتمع تلاميذه القادمون من سليانة إلى قبره لتوديع هذا الأستاذ الجليل الذي ترك فيهم حبّ الكلمات. وهو يقول في أواخر ما خطه من قصائد رائعته
أقسمت على انتصار الشمس
الشمس الغاربة في الأفق الغارق نصفها في البحر
الشمس المصفرة الشفق الذابلة المثقلة بالنوم
الشمس الخجلى كالعادة تنحني للقهر وتنهزم حتّى هذا اليوم
الشمس تعود لتنام على حقدها مع انهمار الليل
الشمس التي تكرك على سرّ وبيضها يفقس على الخيل
أقسمت بالبدلات الزرقاء مسودّة بالمازوط والصديد
أقسمت بالمطارق تحت العضلات تسويّ الحديد
أقسمت بالسنابل
أقسمت بالمناجل سنة الصابة
أقسمت بالخمّاس يمنح الأرض شبابه
أقسمت بزيتون الساحل بتمر الجريد
أقسمت بالشتاء في جندوبة بالصيف في مدنين
أقسمت بالعمال وبالفلاّحين
أقسمت بالمازقري وبالنازحين
أقسمت بالجبل الأحمر والملاّسين
هذه الشمس المصفرّة خجلا
يشرق وجهها ذات صباح بدم جديد
تملأنا أملا..وتملأ قلوب الأشقياء والعبيد.../...
أو كقوله في قضية العرب حكمته الشعريّة*الحديث عن فلسطين*
يتعمّق جرحك إثر كلّ هزيمة
يتكشّف عن سحر الأجداد..
وشعر الأسياد..
وإذا أنت..
كما كنت...
وليمة !!!
وفي واقعية شديدة يرسم للقارئ صورة واقعه العاري كعراء الشمس والقمر كاشفا حقيقة واقعه بلا مواربة ولا مغالطة حتى يشهد بقلمه بحقيقة أيامه فيقول قصيدته *كابوس*
تمتد فوقي شوارع باب البحر
تدوسني عجلات السيارات
تدهسني العربات الثقيلة
تسير على جسمي..
رأسي محطة قطار المرسى
وعلى رجلي المربوطين إلى قيد الألم
يركب قوس باب فرنسا
وتنصب ثياب الروبافيكا
وعلى أذني المنتصبتين في زمن الصمم
يصيح إنسان...
'يا ربّي راني جعان!'
وعلى صدري الحالم في زمن تبخّر الحلم
انتصبت افريكا!
على عيني المفتوحتين في زمن العمى
تلقى فواضل الأغنياء
في ليالي الشتاء الباردة
فتبربشها القطط الشاردة
ويصير فمي الشاهد في زمن البكم
منفضة سجائر
للكلاب الحاقدة!
*وإذا ما سألته من أين ومن تكون يجيبك ككلّ الغالبية من سكنه الحواضر *ريفي* ويفخر. فيقول.
ريفي.
كأن تقول 'جبري'
غريب عن الحضارة
ومن الحفاة العراة..
المعفّسين على الحجارة
ريفي.
كأن تقول 'غبيّ'
في مسرحيات الإذاعة
ويهدي الدجاج والبيض
في سنوات المجاعة!
ريفي.
كأن يقول للكلب "كلب"
وللجاجة "دجاجة"
ويعطش
ويعرى
ولا تحنيه الحاجة!
ريفي.
كما الفقير فقير
والغنيّ غنيّ
كما الوليّ وليّ
والعبد مخصيّ
ريفي.
كما الريفيّ ريفيّ
والمتمدّين مدنيّ
أو كقوله في درس يقدمه لكل الواهمين بأنهم وحدهم في العالم من يقاسي الضنك والكلّ يتآمر فإنّ الإنسانية ليست الحاكم بل المحكوم ولها في ذلك عناصر للتآخي والتحابب حتى تكون صفا ضد القهر والتمييز والاستعمار *رسالة حبّ إلى أوكاموتو*
أوكاموتو
أحبّك يا أوكاموتو
أحبّك يا أخي الإنسان
ولست أخي في الدين
ولست بقارئ القرآن
ولست من 'خير أمة قد أخرجت للناس'
فحين حبول البركان
تذوب جميع الأجناس..
وتسقط كلّ الأديان!
سقطت كلّ التيجان!..
مات أبطال الرّوم
ومات أبطال اليونان
ومات عنترة وعليّ بن السلطان
مات جميع الأبطال...
ومازال الإنسان
أوكاموتو.../...
لنمرّ إلى صوت ثان نبرز من خلاله مرحلة تطور نهج هذه المدرسة من خلال صوت لا يزال يعيش بيننا ومازال قيد الإبداع ولنتخذ من حاضره الشعري ورقة دلالة على مرحلة تطور قصيد في غير العمودي والحرّ
ونعني به الشاعر يوسف رزوقة:
امرأة إلى مرآتــها شعر: الشاعر والروائي يوسف رزوقة
إلى مرآتها جلست سَفَرْجَلة يتعتعها النّعاس تناولت فرشاتها وضعت على الخدّين تفّاحا طلت بالقرمز الشّفتين.. وانتزعت بملقطها شعيرات نمت في غفلة منها وحفَّت حاجبيها ثمّ ماذا؟ الوجه.. مبتسم وعيناها إلى مرآتها غمزته من غمزت؟ رأته هناك تغطرست، قالت: أنا الماء الّذي يحيي.. فكن صحراء واشربني حبيبي.. الصّورة الشّعريّة امرأة إلى مرآتها: رجل إلى امرأة أو امرأة إلى رجل وماذا بعد؟ يسألني المحقّق وهو في رعد شديد. أن يموت كلاهما عشقا وأن يريا الطرّيق، إلى نهايتها، طريقا غير سالكة وأن تضع السُّلَحْفاةُ الّتي بكليهما، بيض القصيدة تحت رمل الشّاطئ المهجور يَفقِس بيضها حجلا، سلاحف أو دجاجا..
فالقصيدة لا تحدّد نوع ما تلد القصيدة دائما ولاّدة لجميع مخلوقات هذا الكون أو أشيائه لا تظلموها واسمعوها، في الهواء الطّلق، تعوي اسمعوها، في الظلام، تموء في كلّ الجهات، لها يد أو بوصلات واسمعوها في الشّوارع موجة غضبيّة تعلو وتهبط من مظاهرة إلى أخرى القصيدة في أريكتها تصوّر جنّة الوطن الّتي في كلّ حلم أو جهنّمه تصوّر ما نأى عنها تصوّر ما دنا منها.. القصيدة.. ما القصيدة؟ حالة في آلة. لا ذئب إلاّها وذاك عواؤها ملء المتاهات. ~ وعيناها إلى مرآتها، غمزته. من غمزت؟ رأته هناك تميّعت، سالت: أنا الماء الّذي يحيي.. فكن صحراء واشربني حبيبي..
ونضيف له تجربة أخرى تمثل بالنسبة إلينا مدخلا لفهم واستيعاب حاضر القصيد الذي اتخذ من الحداثة وما بعد الحداثة رمزين وعنوانين بارزين لهما ومخبرين للتجريب.
أَقْوَى منْ مقْيَاس ريشْتَرَ ~ شعر: يوسف رزوقة
رجلٌ إلى ٱمْرأةٍ أو ٱمرأةٌ إلى رجُلٍ يدَاهُ على يديْها وهْيَ فِيه شهيّة كغموضه
ولذيذة... كهلال شوكولاطة ساحت حلاوته على شَفَتَيْ فتاة تضبط امرأة إلى رجل يدين على يدين وفي عيونهما سحاب راكض وحكاية ملغومة هل أنت من وأد الحقيقة؟ - لا جواب فقط يداه على يديها والفتاة هِلالُ شُوكُولاَطَةٍ ساحت حلاوته على شَفَتَيْ فتى في غفلة منها بدا متلصّصا يرنو إليها غائم العينين لم ير ما تراه لوحدها ماذا رأت؟ رجلا إلى ٱمْرأةٍ أو ٱمرأة إلى رجُلٍ يداه على يديها وفي عيونهما سحاب راكض وحكاية ملغومة • هل أنت من جعل الرّبيع يجيء قبل أوانه فٱغْتلْتَ، مِنْ ثَمَّ، الحمامَ ونِمْتَ في الإِسْطبْلِ ليْلَتَها فلَمْ تَرَ مَا جرَى؟ - تعلّمي أن تصمتي، فحَّتْ دواخِلُهُ... ٱنْحَنَتْ لِتحُكَّ رَبْلَةَ ساقِهَا اليمنى ٱنْحنَى هُوَ لٱلْتِقَاطِ يدَيْه مرتبكين كانا .. والسّماء كئيبة وبعيدة كانت وخلفهما فتاة خلفها، بالضّبط، يسترخي فتى ( هو كان، منذ سنين، يتبعها.. أَكَانَ فظَلَّ، كالكلب الوفيّ، يحبّها؟ ) كانا هناك كلاهما يرنو إلى جهة فتى وفتاته يتلصّصان ويقتلان الوقت في "مقهى الأمان" ولا أمان كلاهما يمتصّ شوكولاطة ساحت على ذقنيهما فَتجَمَّدَتْ ~| المرْأَةُ ـ الرّجُلُ، ٱنحَنَى لهُمَا الجرْسُونُ: • ماذا تشربان؟ المرأة انسحبت يداها من يدي رجل يجالسها ويقتلها بمُدْيَةِ صمته الملغوم: - شايا أخضر، من فضلك.. الرّجل اشتهى نارْجِيلَةً. ~ بكت الفتاة بكى الفتى لبكائها ومضى إليها ضمّها فتَفَاجأتْ ويداه تحتضنان باذِنْجَانَةٌ تسْوَدُّ إذْ تَحْمَرُّ لم تنفر، برغم جموحها الفَرَسِيِّ، من لمساته تركته يفعل فاقشعرّت فروة الشّعر الحرير وشَلَّها الخجَلُ، ٱكْتفَتْ بالابتسامة وهي تدفعه كمن تدنيه قال لنفسه: "حبيبتي زنجيّة": أغنيّة لي، لا أملّ سماعها .. فأزال، وهي إلى يديه، صداعها ~ رجلٌ إلى ٱمْرأةٍ أو ٱمرأةٌ إلى رجُلٍ هنا والآن في "مقهى الأمان" ولا أمان ولا فتاة ولا فتى يتلصّصان تلاشيا متآمرين على المدينة في اتّجاه "حديقة الحيوان" والجرسون؟ ظلّ لوحده قبالة امرأة إلى رجل لوحدهما يقولان الرّبيع ولا ربيع كلاهما يحكي حكايته وشاي أخضر، نارجيلة وجريمة موصوفة منْ حوَّلَ المجْرى الّذِي للنَّهْر؟ ، تسأله يفاجئها الأنيق ولا أناقة فيه: أنْتِ، أنَا و.. هُمْ ~ مقْيَاسُ ريشْتَرَ عاجِزٌ عن قيس زلزال كهذا - وهو زلزال الزّلازل - لمْ يَدَعْ عيبا على علاّته أو نجمة في حلمها لم يترك امرأة إلى مرآتها شفّافة وجميلة لم يترك الوحش الجميل على زجاج مزاجه ٱنْدَكّتِ الأشياء مقْيَاسُ ريشْتَرَ عاجِزٌ عن قيس زلزال كهذا – وهو زلزال الزّلازل – لا حبيبة يحتفي بجمالها الشّعراء لا شعراء في الأرض الخراب ولا ربيع ولا مجرّد ذرّة رمليّة في الشّط يصهرها الغريق زجاجة لنجاته ~ رجلٌ إلى ٱمْرأةٍ أو ٱمرأةٌ إلى رجُلٍ يقولان الرّبيع ولا ربيع يدقّ بابهما انتهى الشّغف القديم وكان يا ما كان.. هل كنّا هنا؟ ~ كنّا هناك ولم نكن... وكطائر الفينيق من تحت الرّماد نعود أَنْفُسَنَا ظلَمْنَا هازئين بكلّ شيء في الوجود هناك كنّا لم نكن إلاّ... وتلك حكاية أخرى
*وبهذا القصيد نكون قد تهيأنا لخوض غمار ما برز على أيامنا من أشكال وأجناس أدبية تنزع المنزع الواقعي بسحرية تتخذها مدخلا وهذه السحرية طورا تبرز من الغرابة التي يتخذها الكاتب معبرا لنصه أو طورا يتخذ من عناصر التشويق المشهدية على الشاكلة السينمائيّة الحديثة مدخلا لولوج قلب وأذن السامع وأيضا بصر القارئ على قلّة إن لم نقل ندرة من يقرأ على أيامنا.
ولنواكب هذه التطورات والمناهج النماذج اتخذنا مسلكا خاصا ليس في انتقاء النماذج فقط بل وخصصنا غالبيتها لمربين مبدعين مواكبين حالتهم الإبداعيّة التي في عمقها تأثير واضح لحرفتهم ودورهم كمربين وبرز ذلك في محاولة تسلطهم وجذبهم للقارئ بطريقة فيها من المربي الشيء الكثير كما في لغتهم مسلكا تجد فيه صدى المربي.
ومن هنا ننطلق في تركيب بعض التفاصيل من خارج المربين إلى المربين حتى نبرز ما أسلفنا ذكره من خصوصيات نصوص المربي المبدع. ولهذا الغرض اخترنا علامتين من علامات ساحتنا الفارقة المبدعة ليكونا مدخلا لفهم نص المربي المبدع وهما كلّ من الشاعر الراحل الصغير أولاد أحمد والكاتب القصصي ناجي الخشناوي.
فهذا شاعر الرفض والثورة والواقعية الصغير أولاد أحمد ننتقي له هذه النصوص لما فيها من قوّة بلاغ وتبليغ وهي: أسميناها.
ثلاثة رسائل للوطن ثلاث قصائد للشاعر التونسي الكبير الراحل الصغير أولاد أحمد
*1*"تونس"
سلّمتُ في الدُّنيا...
وقلتُ:أ كونُها: شعرًا ونثرًا ناقدًا ومُبشّرًا ...طولَ الفصولِ الأربعهْ 2 أنْثَى وأمّي ........................... ليس لي .... قبْرٌ في المــَا-بعْدُ (في الأُخْرى) سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ" ....................تونس
*2*نحبّ البلاد نحبُّ البلادَ... كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ صباحًا مساءً وقبل الصّباحِ وبعد المساءِ ويوم الأحدْ
ولو قتّلونا كما قتّلونا ولو شرّدونا كما شرّدونا
لعُدنا غزاة لهذا البلدْ
وعادَ إلى أرضنا الشجرُ وعادَ إلى ليلنا القمرُ
وصاحَ الشهيدُ: سلامٌ سلامٌ على من صمدْ
نحبُّ البلادَ كما لا يحبَّ البلادَ أحدْ ولو قتَّلونا ولو شرَّدونا لعُدنا غزاةً... لنفسِ البلدْ
*3*قد أموت شهيدًا قد أموت شهيدًا وقد لا أموت شهيدَا هكذا قلت للصحفيِّ ، وعدْتُ إلى البيتِ… أكتبُ هذا القصيدَ داخلَ المصعد الكهربائيّ قطٌّ، يجاورُني منذ عام، غدا نلتقي »:قالَ، قلتُ: غدًا ليسَ يومًا أكيدَا ها هيَ الكلماتُ، والوقتُ أبْيضُ قان تُشيّدُ للموت عُشّيْن: عشا حديثٌا… وعشّا جديدَا أيها الطبُّ والربُ: لا تَتركاني،مع الذئب، وحْدي وان شئتُما فدَعاني إلى وحْدتي… واحدًا ووحيدَا
وهذا نص قصصي للقاص ناجي الخشناوي 'درجة أولى' (من المجموعة القصصية) *خطوة القط الأسود*
"...هناك قاطرة للبكاء تقل المفتين والحالمين..."
مظفّر النواب
ألقى بجسده داخل العربة وهو يلهث دون أن يتثبت منها، بعد أن فاجأته صافرة القطار منذرة بانطلاق الرحلة. أنزل الحقيبة الثقيلة من فوق ظهره وركنها حذوه، فوق الكرسي الفارغ، ثم رفع رقبته إلى الأعلى حيث يندفع الهواء باردا من مكيف العربة.
لما انتظمت أنفاسه شرع يتفرس ملامح المسافرين المنتشرين داخل العربة الواسعة. لم يكونوا كثرا: سائحة متوسطة العمر مشغولة بتفاصيل الطريق وأزرار آلة التصوير الرقمية تداعبها تارة أمام صواري المراكب المتناثرة فوق ماء البحر، وطورا نحو قرص الشمس الذاهبة في حمرتها إلى أسفل زرقة الماء، وشاب يلاحق إيقاع الموسيقى المنبعثة من سلكي آلة التسجيل المثبتين في أذنيه، وامرأة تطالع مجلة باللغة الفرنسيّة.
كانوا ثلاثة وهو رابعهم صامتين وسط القطار الواسعة والمكيفة، وكانت باقي المقاعد شاغرة. توقف القطار في المحطة الأولى. انزلق باب العربة على المقاعد كانت من الجلد الخالص، وسليمة من آثار التخريب أو التمزيق، وفي طرف كل مقعد ثبتت مطفأة سجائر.
إذن التدخين مسموح به في هذه العربة.
أشعل سيجارة وعاد يمشط العربة ببصره عله يعثر على خربشة بالقلم فوق أحد المقاعد أو تصادفه ملصقة اشهاريّة ممزقة الأطراف فوق البلور المفتوح على الخارج. اليمين والشمال ولم يصعد أحد، وإنما تناهى إلى سمعه ضجيج وصياح تعالى من ذيل الثعبان الحديدي.
في المحطة الثانية نزلت السائحة وصعدت فتاة تحتضن بين ذراعيها جروا أبيض اللون ومن عنقه تدلت قلادة ذهبية. ظلّ ينقل بصره بين صدرها الناهد وذيل الجرو الملتصق بإحدى حلمتيها برهة من الزمن ثم فتح حقيبته وأخرج سكينا ومقصا.
وضع السكين والمقصّ فوق المقعد بجانبه، وعاود النظر إلى الفتاة... ثم شرع في تجميع وترتيب زهرات الفلّ والياسمين ويلفها بالخيط الأبيض الرفيع، بحركات بهلواني سريعة ودقيقة.
عندما كان مشغولا بما بين أصابعه لم يتفطن إلى مراقب التذاكر وهو يدخل من الباب الخلفي للعربة. ويتجه نحوه مباشرة بعد أن وزع ابتسامته للفتاة وتحيته للشاب والمرأة.
· التذكرة.
· تفضل.
سحبها من جيب سترته وهو يغلق حقيبته كيفما اتفق ويجمع حبات الياسمين والفل المتناثرة فوق ركبتيه.
· ماذا تفعل هنا؟ هذه تذكرة درجة ثانية.
· لم انتبه، فاجأني القطار فصعدت من أول باب مفتوح.
توقف القطار في المحطة الثالثة. نزل مراقب التذاكر حاملا الحقيبة المملوءة بأزهار الياسمين والفلّ وهو يتبعه من الخلف ويتوسل إليه أن يخلي سبيله.
بعد أن خرج من مخفر الشرطة أين حجزت حقيبته بما حوت، قطع السكة في اتجاهها العكسي. اقتطع تذكرة للعودة من حيث جاء وغاب طيفه في الضجيج المتعالي أمام عربة "الدرجة الثانية".
ومن خلال هذين التجربتين نلحظ أولا أن المربي المبدع كما سنورد لبعضهم هو كائن مخبري يتميز بوفرة التجريب وتعدد الأوعية فهو لا يتوقف عند صنف أو نوع أو ضرب هو يجرب ويراوح بين القصيد والقصة والأقصوصة والرواية. وهي الحالات التي يمرّ بها سواء في مهنته فهو راوي وهو أيضا شاعر يلقي القصيد ويتذوقه فينقده ويسوّي ثقوبه وثغراته ويعريها وهو أيضا يقصّ ويصف فيطيل أو يختصر فيبلّغ وهذه خصوصية المربي منها يأتي بتعبيراته ومنها ينبع وجده في لحظة الصفر لحظة الكتابة.
وحتى نكون أشدّ وضوحا نورد بعض المقارنات التي تبرز ما ذهبنا إليه من خلاصة.
النص القصصي الأول
كنت أعيش بقرية صغيرة تسكنها الجالية الإيطالية والفرنسية من زمن الحرب العالمية الأولى .هي عبارة على مباني يغلب عليها الطابع الفرنسي بها حدائق كبيرة ..تطل منها أزهار و ورود مختلفة الألوان بعض فصائلها وقع جلبها من إيطاليا وفرنسا الشيء الذي كان يُميزُ بيوتهم الجميلة و المليئة بلأسرارعن بيوتنا البسيطة . وكانت السقوف كلها مكسوة قرمدا أحمر ، وبقمة كل سقف عش طيور كبير لذاك الطير كبير الحجم ( الحاج قاسم ) هكذا كنا نسميه ونحن صغار .كنت غالبا ما أكون عند عودتي من المدرسة مسرعة الخطى أتعثر حينا وأسقط أحيانا ذك لأن محفظتي كانت كبيرة جدا وكانت حاجتي إلى بيت الحمام جدُ ملحة ككل مرة
ولكن رغم ذلك كنت أتوقف طويلا أمام بيوت الإيطاليات اللّواتي كن يرتدين الأسود في غالب الأوقات يتكلمن لغة لا أفهمها ،ولكن يبتسمن لي دائما فأطمئنُ رغم سواد ثيابهن القاتم المخيف. لاحظَتْ إحداهن يوما أنني كنت أتوقف كلّما ازدادت حاجتي الملحة لبيت الحمام حين كنت أقف خيفة أن ينكشف أمري فتتبلل ثيابي ويضحك عني المارة وهم يرمقون تسلل البول الى حذائي الصغير ... دعتني للدخول إلى الحمام ببيتها، ففرحت فرحا شديدا ونسيت ما كان يشغلني ، كانت تُدعى " مدام فتيــنا"
ذات الرداء الأسود حققت حلمي
كنت دائما أحلم بالدخول الى بيوت العجائز الإيطاليات لأرى ما لم أستطع رؤيته من الخارج ،بل كنت أتكهن أشياءً وأشياء ...!! كان البيت غارقا في الظلام الدامس ...لكن هذا اللّون الأسود الذّي كان متوفرا بنسبة كبيرة في البيت خفف عتمته الدنتال الأبيض الذّي كان يغطي الطاولات والأفرشة بعناية كبيرة .... على الجدران عُلقت صورا قديمة صفراء فقدت ملامح أصحابها وعلى الطاولات شمعدان من الفِضة والرخام الوردي، كان كل ما في البيت يشدك الى درجة الحلمِ ، بل إلى درجة السباحة في المتوسط . نسيت حاجتي للحمام وبقيت أحملق في ما كان حولي
عالم غريب بجوارنا
عالم آخر يستهويك ، عالم مليء بالحكايات كتلك التي ترويها لنا الجدات في ليالي الشتاء الباردة ، إلى أن يأخذنا النعاس فننام . لم يكن بيتنا يبعد عن ذك المكان ولكنني كنت أشعرُ حينها أنني دخلت إحدى البيوت بجزيرة سردينيا الإيطالية
لا، بل بأعماق التاريخ البعيد المُغري خارج الزمان ، بيوت بها مزيج من رائحة البحر وعذوبة القدم ...
أو كأقصوصتها
ليلة من رواية ــ ليلة شتاء .
كانت تدخن بشراهة ، وتشرب بشراهة السكارى . كانت تعلم أنها بسردها لمختلف محطات حياتها يمكنها أن تخسرهُ في أية لحظة . كان يجلسُ قبالتها ، أسمر وسيم هادئ الطبع قليل الكلام ..! كيف ولمَ شعرت بهذا الفيض العاطفي ليلتها حتى تطلق العنان للسانها ، لا تدري . ربما كان ذلك تحت تأثير الخمرة ؟؟! أو ربما المكان ، للمكان تأثير خفي ، المكان مجرم أحيانا ..أو التوقيت ، الليل ، الليل خمرة في حد ذاته ..كانت تتساءل وهي تهمس ، كمن يحدثُ نفسهُ أو ربما كانت تعيش لحظة صدق مع نفسها أو اعتراف ولكن لمن ولمَ ؟! أو ربما كانت تشعر بحاجتها الملحة لعملية إفراغ من الداخل.
إفراغ لم تراكم بالقلب والعقل معا ــ هي تعلم أن لا عقل لها لأنها جد حنونة ، لا تعقلن الأشياء ولا تجيد التريث ولا الحكمة كان لها مكان العقل قلبا ، وبمكان القلب قلبا أكبر ..! " هكذا ولدتني أمي سريعة الغضب ، كثيرة البكاء وسريعة الصفحِ أيضا " أشعلت السيجارة الرابعة وهو يرمقها . سأل بصوت هادئ " كأس أخرى ؟!" لم تجبهُ بل واصلت حديثها وهي تفكر في هذا الذي يجلس قبالتها ، قد يسيء الظن بها وقد يعتبرها ككل النساء، ككل اللواتي عاشرهن في أوروبا أو كل من عرضن عليه أجسادهن مقابل قارورة عطر أو شامبو حين كان يبيع البضائع التي كان يجلبها من فرنسا بالسوق الأسبوعية . كانت تتحدث دون أن تنظر إليه كمن يحدث السماء ، كمن يمسك مفاتيح الليل كمن يعي أسرار العتمة ، أسرار كل الحكايا وكل التفاصيل الصغيرة .كمن يعرف تأثير العطور على الرجال ، كمن يتقن المد والجزر وفنون الرواية والغواية ..كانت لها ثقة كبيرة بنفسها . سألها فجأة بصوت مرتفع هذه المرة . " كيف تكون لكِ كل هذه التجارب وتمرين بكل هذه المصائب في هذه السن المبكرة و ...؟" قاطعتهُ بضحكة مستهترة ضحكة فتيات الليل الصادقات عفيفات الروح دنسهن الزمن ...! " نحن الفقراء نكبر في سن مبكرة يا عزيزي ، نصبح فلاسفة في سنٍ مبكرة ، نتزوج ونطلق ونحن في سن مبكرة ، نردم أحلامنا وأطفالنا في سن مبكرة ونموت أيضا في سنٍ مبركرة .." أطفأت سيجارتها التي بلغت إصبعها فأحرقتها، نفثت الدخان من فيها عاليا في الفضاء ثم أردفت .. " نموت في سن مبكرة يا صديقي ..نموت من الداخل ، ليست تلك الموتة التي يعرفها البشر ، نحن خارج التصنيف يا حبيبي ، خارج التوقيت وخارج السعادة وخارج الأمل " بعينين زائغتين نحو النافذة حملقت في الظلام خارجا ... كان صمته مغرٍ ، طويل جدا ..لا يُمل . كالاطباء . كالأطباء النفسانيون ، أولائك الذين تعج عياداتهم بالأغنياء أصحاب الشركات ورؤوس الأموال . الشيء الذي جعلها تواصل حديثها قائلة .. " عرفت الكثير ..الكثير من الرجال عدد لا أقدر على حصره لو تعلم ..! " قهقهت ، أشعلت سيجارة أخرى ثم واصلت حديثها " كانوا كلهم حمقى ، كلهم ... بدون استثناء ..وحتى أبي كان أحمقا مثلهم هو لا يحب أمي ، كان فقط يحبُ جسدها النحيل الأبيض لم يكن يحب تضحياتها ولا يعير تعبها اهتماما ، كان كل همه جسدها يا صديقي ..لم تكن أمي تمارس الجنس ككل النساء ، كانت فقط تخافه ، كانت فقط تفعل ذلك كي لا يُعنفها ، كي يشترى لنا الرغيف والقليل من الخضر في الغدِ " . تصمت لبرهة تسكب القليل من المشروب على شفتها السفلى ، تتدحرج بعض القطرات على ذقنها الصغير وبحركة سريعة بأناملها الرقيقة تجففها، ثم تواصل " كم كنت أستمتع بمواعدة ثلاثة ..أربعة ...خمسة " تقهقه مرة أخرى وهي تشيرُ تدريجيا بأصابعها الصغيرة عاليا في الفضاء تسوي جلستها ثم تضيف " كنت أعِد بملاقاة خمسة رجال أحيانا بنفس المكان ونفس الساعة ..هكذا.." قاطعها سائلا مبتسما وكأن الآمر أضحكه هو أيضا محملقا في ملامح وجهها ، في حُمرة خديها ، وجه صغير لفتاة فاتنة ليلا ..! فتاة تعترفُ بأخطاءها ، ربما لم تكن أخطاء ، ربما كانت نتاج بيئة ، أو قسوة زمن ظلمها أو نزوة دولةٍ من يدري ؟! المهم أن الخمرة زادتها جمالا وحمرة . " ولمَ بنفس المكان ونفس التوقيت ؟! " أجابته بكل عفوية " لستُ أدري، ربما كان الأمر حينها يجلب لي بعض السعادة وأنا أشاهدهم من بعيد ... كانت المواعيد تتضارب أحيانا برأسي الصغيرة ، فأجدني عند رقم 10 ههههه " تقهقه عاليا مرة أخرى ضحكة كانت شبيهة بالبكاء هذه المرة " كنت أحيانا أعطف على من لا نقود له ، يجتهد لإيجاد هدية فيضطر لسرقة قرط أمهِ أو شيئا ثمينا لأبيه تلقي برأسها الثقيلة إلى الرواء يرتخي جسدها على الأريكة ، ترفعُ ذراعيها عاليا ثم تضيف " كنتُ سأحبهُ لو تعلم ؟! " " من ؟؟! " " أستاذي ، أستاذ الفلسفة الذي كان يُصرُ أن يكون الدرس الخصوصي بمفردي أوأن أتعمد المجيء متأخرة حتى يتفضل بإضافة ساعة لي وحدي " تضحك ساخرة " كانت فكرتهُ " قهقهت ثانية وثالثة ثم أردفت ... "اعتقد أن جل أصدقائي كانوا يعلمون ذلك " قاطعها سائلا " يعلمون ماذا ؟" أجابت " يعلمون أنني كنت على علاقة بأستاذ الفلسفة حينها في الحقيقة كانت له أفكار وطريقة تحليل ورؤى وطرح للمواضيع مذهلة ! " يبتسم يسندُ رأسه على قبضة يدهُ يتوه في سحر وجهها ويغرقُ في صمته مجددا .. أردفت .. " أتعلم ..؟ اعتقد ت يوما أنني أحبهُ ، الحمد لله أنني لم أحبه ، في الحقيقة أنا لمْ أحب أحدا على الاطلاق " تشعلُ سيجارة أخرى " مصيبة أن نحب .." " ولمَ ؟؟ الحبُ أنبل العواطف وأسماها " سألها مستغربا ... " الحب ضعف يا صديقي ، وأنا أكرهُ أن أضعف " ( يتبع ) كانت تدخن بشراهة ، وتشرب بشراهة السكارى . كانت تعلم أنها بسردها لمختلف محطات حياتها يمكنها أن تخسرهُ في أية لحظة . كان يجلسُ قبالتها ، أسمر وسيم هاديء الطبع قليل الكلام ..! كيف ولمَ شعرت بهذا الفيض العاطفي ليلتها حتى تطلق العنان للسانها ، لا تدري . ربما كان ذلك تحت تأثير الخمرة ؟؟! أو ربما المكان، للمكان تأثير خفي ، المكان مجرم أحيانا ..أو التوقيت ، الليل ، الليل خمرة في حد ذاته ..كانت تتساءل وهي تهمس ، كمن يحدثُ نفسهُ أو ربما كانت تعيش لحظة صدق مع نفسها أو اعتراف ولكن لمن ولمَ ؟! أو ربما كانت تشعر بحاجتها الملحة لعملية إفراغ من الداخل . إفراغ لم تراكم بالقلب والعقل معا ــ هي تعلم أن لا عقل لها لأنها جد حنونة، لا تعقلن الأشياء ولا تجيد التريث ولا الحكمة كان لها مكان العقل قلبا ، وبمكان القلب قلبا أكبر ..! " هكذا ولدتني أمي سريعة الغضب ، كثيرة البكاء وسريعة الصفحِ أيضا " أشعلت السيجارة الرابعة وهو يرمقها . سأل بصوت هادئ " كأس أخرى ؟!" لم تجبهُ بل واصلت حديثها وهي تفكر في هذا الذي يجلس قبالتها ، قد يسيء الظن بها وقد يعتبرها ككل النساء، ككل اللواتي عاشرهن في أوربا أو كل من عرضن عليه أجسادهن مقابل قارورة عطر أو شامبو حين كان يبيع البضائع التي كان يجلبها من فرنسا بالسوق الأسبوعية . كانت تتحدث دون أن تنظر إليه كمن يحدث السماء ، كمن يمسك مفاتيح الليل كمن يعي أسرار العتمة ، أسرار كل الحكايا وكل التفاصيل الصغيرة .كمن يعرف تأثير العطور على الرجال ، كمن يتقن المد والجزر وفنون الرواية والغواية ..كانت لها ثقة كبيرة بنفسها. سألها فجأة بصوت مرتفع هذه المرة . " كيف تكون لكِ كل هذه التجارب وتمرين بكل هذه المصائب في هذه السن المبكرة و ...؟" قاطعتهُ بضحكة مستهترة ضحكة فتيات الليل الصادقات عفيفات الروح دنسهن الزمن ...! " نحن الفقراء نكبر في سن مبكرة يا عزيزي ، نصبح فلاسفة في سنٍ مبكرة ، نتزوج ونطلق ونحن في سنمبكرة ، نردم أحلامنا وأطفالنا في سن مبكرة ونموت أيضا في سنٍ مبركرة .." أطفأت سيجارتها التي بلغت إصبعها فأحرقتها، نفثت الدخان من فيها عاليا في الفضاء ثم أردفت .. " نموت في سن مبكرة يا صديقي ..نموت من الداخل ، ليست تلك الموتة التي يعرفها البشر ، نحن خارج التصنيف يا حبيبي ، خارج التوقيت وخارج السعادة وخارج الأمل " بعينين زائغتين نحو النافذة حملقت في الظلام خارجا ... كان صمته مغرٍ ، طويل جدا ..لا يُمل . كالأطباء . كالأطباء النفسانيون ، أولائك الذين تعج عياداتهم بالأغنياء أصحاب الشركات ورؤوس الأموال . الشيء الذي جعلها تواصل حديثها قائلة .. " عرفت الكثير ..الكثير من الرجال عدد لا أقدر على حصره لو تعلم ..! " قهقهت ، أشعلت سيجارة أخرى ثم واصلت حديثها " كانوا كلهم حمقى ، كلهم ... بدون استثناء ..وحتى أبي كان أحمقا مثلهم هو لا يحب أمي ، كان فقط يحبُ جسدها النحيل الأبيض لم يكن يحب تضحياتها ولا يعير تعبها اهتماما ، كان كل همه جسدها يا صديقي ..لم تكن أمي تمارس الجنس ككل النساء ، كانت فقط تخافه ، كانت فقط تفعل ذلك كي لا يُعنفها ، كي يشترى لنا الرغيف والقليل من الخضر في الغدِ " . تصمت لبرهة تسكب القليل من المشروب على شفتها السفلى ، تتدحرج بعض القطرات على ذقنها الصغير وبحركة سريعة بأناملها الرقيقة تجففها، ثم تواصل " كم كنت أستمتع بمواعدة ثلاثة ..أربعة ...خمسة " تقهقه مرة أخرى وهي تشيرُ تدريجيا بأصابعها الصغيرة عاليا في الفضاء تسوي جلستها ثم تضيف " كنت أعِد بملاقاة خمسة رجال أحيانا بنفس المكان ونفس الساعة ..هكذا .." قاطعها سائلا مبتسما وكأن الآمر أضحكه هو أيضا محملقا في ملامح وجهها ، في حُمرة خديها ، وجه صغير لفتاة فاتنة ليلا ..! فتاة تعترفُ بأخطائها ، ربما لم تكن أخطاء ، ربما كانت نتاج بيئة ، أو قسوة زمن ظلمها أو نزوة دولةٍ من يدري ؟! المهم أن الخمرة زادتها جمالا وحمرة . " ولمَ بنفس المكان ونفس التوقيت ؟! " أجابته بكل عفوية " لستُ أدري، ربما كان الأمر حينها يجلب لي بعض السعادة وأنا أشاهدهم من بعيد ... كانت المواعيد تتضارب أحيانا برأسي الصغيرة ، فأجدني عند رقم 10 ههههه " تقهقه عاليا مرة أخرى ضحكة كانت شبيهة بالبكاء هذه المرة " كنت أحيانا أعطف على من لا نقود له ، يجتهد لإيجاد هدية فيضطر لسرقة قرط أمهِ أو شيئا ثمينا لأبيه تلقي برأسها الثقيلة إلى الرواء يرتخي جسدها على الأريكة ، ترفعُ ذراعيها عاليا ثم تضيف " كنتُ سأحبهُ لو تعلم ؟! " " من ؟؟! " " أستاذي ، أستاذ الفلسفة الذي كان يُصرُ أن يكون الدرس الخصوصي بمفردي أوأن أتعمد المجيء متأخرة حتى يتفضل بإضافة ساعة لي وحدي " تضحك ساخرة " كانت فكرتهُ " قهقهت ثانية وثالثة ثم أردفت ... "اعتقد أن جل أصدقائي كانوا يعلمون ذلك " قاطعها سائلا " يعلمون ماذا ؟" أجابت " يعلمون أنني كنت على علاقة بأستاذ الفلسفة حينها في الحقيقة كانت له أفكار وطريقة تحليل ورؤى وطرح للمواضيع مذهلة ! " يبتسم يسندُ رأسه على قبضة يدهُ يتوه في سحر وجهها ويغرقُ في صمته مجددا .. أردفت .. " أتعلم ..؟ اعتقد ت يوما أنني أحبهُ ، الحمد لله أنني لم أحبه ، في الحقيقة أنا لمْ أحب أحدا على الإطلاق " تشعلُ سيجارة أخرى " مصيبة أن نحب .." " ولمَ ؟؟ الحبُ أنبل العواطف وأسماها " سألها مستغربا ... " الحب ضعف يا صديقي ، وأنا أكرهُ أن أضعف " .كانت تدخن بشراهة ، وتشرب بشراهة السكارى . كانت تعلم أنها بسردها لمختلف محطات حياتها يمكنها أن تخسرهُ في أية لحظة . كان يجلسُ قبالتها ، أسمر وسيم هاديء الطبع قليل الكلام ..! كيف ولمَ شعرت بهذا الفيض العاطفي ليلتها حتى تطلق العنان للسانها ، لا تدري . ربما كان ذلك تحت تأثير الخمرة ؟؟! أو ربما المكان ، للمكان تأثير خفي ، المكان مجرم أحيانا ..أو التوقيت ، الليل ، الليل خمرة في حد ذاته ..كانت تتساءل وهي تهمس ، كمن يحدثُ نفسهُ أو ربما كانت تعيش لحظة صدق مع نفسها أو اعتراف ولكن لمن ولمَ ؟! أو ربما كانت تشعر بحاجتها الملحة لعملية إفراغ من الداخل . إفراغ لم تراكم بالقلب والعقل معا ــ هي تعلم أن لا عقل لها لأنها جد حنونة ، لا تعقلن الأشياء ولا تجيدالتريث ولا الحكمة كان لها مكان العقل قلبا ، وبمكان القلب قلبا أكبر ..! " هكذا ولدتني أمي سريعة الغضب ، كثيرة البكاء وسريعة الصفحِ أيضا " أشعلت السيجارة الرابعة وهو يرمقها . سأل بصوت هادىء " كأس أخرى ؟!" لم تجبهُ بل واصلت حديثها وهي تفكر في هذا الذي يجلس قبالتها ، قد يسيء الظن بها وقد يعتبرها ككل النساء، ككل اللواتي عاشرهن في أروبا أو كل من عرضن عليه أجسادهن مقابل قارورة عطر أو شامبو حين كان يبيع البضائع التي كان يجلبها من فرنسا بالسوق الاسبوعية . كانت تتحدث دون أن تنظر إليه كمن يحدث السماء ، كمن يمسك مفاتيح الليل كمن يعي أسرار العتمة ، أسرار كل الحكايا وكل التفاصيل الصغيرة .كمن يعرف تأثير العطور على الرجال ، كمن يتقن المد والجزر وفنون الرواية والغواية ..كانت لها ثقة كبيرة بنفسها . سألها فجأة بصوت مرتفع هذه المرة . " كيف تكون لكِ كل هذه التجارب وتمرين بكل هذه المصائب في هذه السن المبكرة و ...؟" قاطعتهُ بضحكة مستهترة ضحكة فتيات الليل الصادقات عفيفات الروح دنسهن الزمن ...! " نحن الفقراء نكبر في سن مبكرة يا عزيزي ، نصبح فلاسفة في سنٍ مبكرة ، نتزوج ونطلق ونحن في سن مبكرة ، نردم أحلامنا وأطفالنا في سن مبكرة ونموت أيضا في سنٍ مبركرة .." أطفأت سيجارتها التي بلغت إصبعها فأحرقتها، نفثت الدخان من فيها عاليا في الفضاء ثم أردفت .. " نموت في سن مبكرة يا صديقي ..نموت من الداخل ، ليست تلك الموتة التي يعرفها البشر ، نحن خارج التصنيف يا حبيبي ، خارج التوقيت وخارج السعادة وخارج الأمل " بعينين زائغتين نحو النافذة حملقت في الظلام خارجا ... كان صمته مغرٍ ، طويل جدا ..لا يُمل . كالاطباء . كالأطباء النفسانيون ، أولائك الذين تعج عياداتهم بالأغنياء أصحاب الشركات ورؤوس الأموال . الشيء الذي جعلها تواصل حديثها قائلة .. " عرفت الكثير ..الكثير من الرجال عدد لا أقدر على حصره لو تعلم ..! " قهقهت ، أشعلت سيجارة أخرى ثم واصلت حديثها " كانوا كلهم حمقى ، كلهم ... بدون استثناء ..وحتى أبي كان أحمقا مثلهم هو لا يحب أمي ، كان فقط يحبُ جسدها النحيل الأبيض لم يكن يحب تضحياتها ولا يعير تعبها اهتماما ، كان كل همه جسدها يا صديقي ..لم تكن أمي تمارس الجنس ككل النساء ، كانت فقط تخافه ، كانت فقط تفعل ذلك كي لا يُعنفها كي يشترى لنا الرغيف والقليل من الخضر في الغدِ " . تصمت لبرهة تسكب القليل من المشروب على شفتها السفلى ، تتدحرج بعض القطرات على ذقنها الصغير وبحركة سريعة بأناملها الرقيقة تجففها، ثم
..
إنها الأستاذة المربية والأديبة الشاعرة والقاصة رفيعة بوذينة زعفران.
أمّا التجربة الثانية التي نوردها فهي للأستاذ المربي والشاعر والروائي والقاص علي الخريجي.
الجبّ
انطلق بعد صلاة المغرب ليحضر وليمة عرس ابنة أحد أصدقائه في مجال عمله. كانت المسافة طويلة نسبيّا. وفيها مراحل معتاصة لضيقها وكثرة الحفر فيها. وكان عليه أن يقود سيّارته الرباعية الدفع بسرعة تستجيب لها. خرج من الطريق الوطنيّة وسلك طريقا فرعيّة حديثة العهد بالبناء. حافظ على نفس السرعة
لأنّ الظلام داهمه. ولم يعد يعرف الطريق التي يسلكها لمّا تكاثرت أمامه المسالك الفلاحيّة. هاتف مضيّفه مرّتين يستهديه الطريق. فهداه. وفجأة وهو يقود بنفس السرعة تقريبا. ارتطم أسفل السيّارة بالإسفلت. وغرقت العجلة الأولى من اليمين في تراب حفرة عميقة في الطريق. وشيئا فشيئا مالت السيّارة تكاد تسقط على الجانب الأيمن. نزل بتؤدة. فراى ان لا طاقة له برفعها بمفرده. انتظر أن يمرّ به أحد يساعده. الطريق زراعية في الريف وسكّان الريف يعودون إلى منازلهم قبل المغرب او بعده بقليل. انتظر ساعة ساعتين... ولمّا يئس من ذلك تذكّر هاتفه. ذهب إلى الأرقام المركّبة ومسّ برفق الرقم. رنّ الجرس رنّتين أو ثلاث ثمّ خانه ضعف مستوى الشحن. فانطفأ الهاتف. لعن الهاتف ومن صنعه. وعاد على نفسه يلومها: ما الذي جاء بي إلى هذا الريف الحقير، في ليلة السوء هذه. تبّا للأعراس والدعوات والمجاملات الرّخيصة. لولا أنّ أبا العروس كان صديقي منذ سنين، وما زال يدّعي احترامه لي وتقديره، ما جئت إلى هذا الحظ العاثر... هل كان عليّ أن أحتفظ بكل العلاقات التي نشأت لأمر عاجل وظرفيّ بيني وبينه وبيني وبين غيره ؟ هل كان أحد غيري سيفعل معه ما فعلت؟ ثم لم هذه السرعة التي كنت عليها؟ وهب أنّي وصلت متأخّرا بعد العشاء، ما الذي كان سيحصل؟ هو سيضطرّ في كلّ الحالات لتدبّر أمر عشائي. وهل له الجراة ليتركني بلا عشاء حتّى لو وصلت صباحا؟ سيكون هو الخاسر في كلّ الحالات. صداقتي لا يستطيع الاستغناء عنها... كان مقاولا مبتدئا. وكنت مهندسا خبيرا بأمور الصفقات والتجهيزات والتكاليف. لا يفوتني شيء من جزئيات بناء الطرقات. أشرفت على العشرات من المقاولين قبله. وكانوا جميعا أصدقائي وطوع يدي. ما كان أحد منهم يستطيع أن يعمل عملا دون نصائحي ومشورتي. أشرفت على بناء ألاف الكيلومترات من الطرقات في تراب البلاد كلّه. والفضل لله أنّي لم أخسر علاقتي بأحد طيلة أيّام عملي. الجميع أصدقائي والحمد لله وبرغبة منهم. ومن تراه يستطيع التنكّر لفضائلي عليه. ناكر الجميل؟ ناكر الجميل لا يجد شغلا معي. قلت إنّي على علم بكل الدواليب ولا فائدة أن يدخل صفقة احدهم دون ان يعود لي بالمشورة. محمود هذا مثلا مكنته من عشرات المشاريع في البناء والإصلاح. ومشاريع الإصلاح أكثر. لست ادري لماذا يكثر عمل الإصلاح على طرقاتنا . أنا المهندس الخبير مازلت لا أعرف لماذا تكثر أعمال الصيانة على طرقاتنا. ربّما لأن المقاولين لا يجدون التراب المناسب. أو لأن أمطارنا غزيرة جدّا لا تترك شيئا لا تجرفه. ثمّ تفطّن أنّه في مأزق. في مكان لا يعرفه. لا يعرف فيه انسانا. لم يسبق أن مرّ به من قبل. والظرف لا يسمح بإلقاء اللوم أو العتاب على أحد. فما العمل الآن؟ أراد أن يسير على قدميه. لكنّه لا يعرف المكان وربّما رماه الليل بداهية أكبر ممّا هو فيه. قرّر إذن أن يعود إلى السيّارة ولو كانت مائلة أو حتّى وقعت على جنبها. المهمّ أنّها تدفع عنه خوف الليل. لكنّ الحرارة شديدة داخل السيّارة والمحرّك لا يعمل. قرّر أخيرا أن يتحمّل مسؤوليته وينام حتّى الصباح في السيّارة رغم الحرارة.
أغلق بلّور السيّارة وليتم نومه حتى الصّباح. لكنّه ما كاد ينام لبضع ساعات حتّى قرع عليه بلور السيّارة. لقد كانت مجموعة من الشباب السكارى يعودون من ذلك العرس بعد السهرة. قرعوا عليه البلّور ربّما ليساعدوه. لكنّه رفض فتح الباب أو تنزيل البلّور خوفا وتوقّيا. فما كان منهم إلاّ أن هشّموا البلور الأمامي وألقوا عليه بقايا علب اللبيرة التي كانوا يحتسونها. ثمّ أطلقوا أرجلهم للريح.
حوالي السابعة صباحا مرّة أولى سيّارات ال404 القديمة. توقّفت. نزل صاحبها بدافع انسانيّ بحت ليساعد صاحب السيّارة الفخمة. كان المهندس مستيقظا منذ حادثة الشباب. إذ لم يستطع النوم. وبقي داخل السيّارة لأن الشمس حارّة منذ الصباح. رأى الرجل صاحب العربة قادما نحوه. فنزل مستغيثا: ـ برحمة والديك... هل تعرف محمود مقاول الطرقات؟
ـ ومن لا يعرفه.. هل تريده في شيء؟
ـ خذني إليه. وأعطيك ما تريد.
ـ آخذك إليه. ولا آخذ سوى أجرتي.
أصابه كلام الرجل ببعض الضيق. سيّارة كهذه. ويرفض ما زاد عن أجرته. يا له من...أراد أن يقول: يا له من غبيّ. لكنّه لأمر مّا سحبها من فكره. سارت السيّارة القديمة ربع ساعة حتّى وقفت أمام البناية الفخمة منتصبة في مزرعة شاسعة بكلّ شموخ وكبرياء. ضغط السائق على المنبّه مرّة... اثنتين. خرج محمود يمسح فمه من بقايا الفطور. فرأى صديقه المهندس من نافذة العربة. اتجه إليه. حيّاه. حلف عليه بالنزول ليفطر. وكلّ ذلك والمهندس لا يجد الكلمة المناسبة أو لا يريد أن يذلّ نفسه بالشكوى، لشخص طالما كانت له عليه اليد العليا. وأخير نطق.
ـ لا حاجة لي بالفطور . سيّارتي معطّلة، تكاد تنقلب في الطريق. هات سيّارتك وتعالى معي، ننظر ما نفعل
ـ دقيقة أرتدي ثيابي بسرعة وآتيك. دقيقة واحدة. نزل المهندس من العربة القديمة ولجأ إلى ظلّ شجرة قريبة حتّى جاء محمود. ركب المهندس إلى جانبه والغيظ يأكله أكلا لمًّا. ولبت يسرد له ما مرّ به ليلة البارحة منذ خروجه من اليبت مسرعا، حتى وصل إلى ذلك المكان اللعين. ولعن في الأثناء من كان السبب فيما حصل له.
وصلا السيّارة. توقّفا بجوارها. ولم يستطع محمود ان يقبل أنّه سبب في ما حصل لصديقه المهندس. وأنّ اللعنة في كلّ الأحوال ثقيلة. ولا يستطع أن يتحمّلها. فربّما توجّب عليه توضيح الأمر. فقال للمهندس بعد أن طلب من هاتفه عربة الsos:
ـ أتذكر شجرة الزيتون هذه؟
ـ لماذا؟
ـ أتذكر أنّك كنت تركن تحتها السيّارة؟
ـ لم أفهمك.
ـ لعلّك لا تذكر. فأنت لم تكن تنزل من السيّارة عندما كنت تأتي إلى هنا، لترى كيف تسير الأشغال.
ـ ماذا تريد أن تقول؟
ـ هنا تحت هذه الشجرة المباركة ودون أن تنزل من السيّارة كالعادة، كنت قد باركت إنهائي أشغال هذه الطريق قبل انقضاء الآجال القانونيّة بمدّة مديدة.
*وحتى لا نبق نخوض في واحد من أوجه الإجادة والتميز لنصوص مربينا المبدعين سنذهب حثيثا نحو إبراز أوجه أخرى أهمّ عناصرها تميز اللغة التي تكون أرضية خصبة لتدريس مادة اللغة بكامل تفاصيلها وبساطة العبارة التي تفيد طرقا لتدريس عمليات التعبير ونمط اختيار عملية ترصيع النص حيث يكون المختصر المفيد الواضح المعنى والمبنى.
ومن هنا ننطلق مع أصيل أسرة التربية رغم أنه ذهب إلى التفرغ للأدب لضيق رآه في زمن التخصص للكتابة والتفرغ لها ونعني به الشاعر والمترجم والأديب آدم فتحي حيث نختار له نماذج للتدليل على خصوصية المربي المبدع.
ثلاث معزوفات للشاعر التونسي الكبير آدم فتحي
*الشاعر آدم فتحي: 'كاتب وإعلامي ومترجم تونسي. عرف بكتابته الملتزمة التي تجمع بين المغامرة الجمالية والموقف الإنساني التقدمي. زاول التدريس طيلة سنوات ثمّ تمّ إيقافه عن العمل سنة 1984 وأعيد إليه سنة 1987 قبل أن يضطرّ إلى الاستقالة والتفرّغ للإنتاج الأدبي والإعلامي في منتصف التسعينات.
(1)
نافخ الزّجاج
(حركة أولى)
تسأل الطفلة أباها: كيف تكتب؟
كان أعمى.
-أنظر في نفسي طويلا إلى أن أرى ثقبا في الصفحة. أضع على الثقب كلمة. أنفخ في الكلمة كي تكبر قليلا. هكذا أحصل أحيانا على قصيدة.
-ثمّ ماذا؟
-لا شيء سوى أنّي قد أقع في الثقب فلا أعود.
***
(2)
غياب
1* قلت لها "أحبك لا تقولي هذا لأحد". لم تطق صبرا.
ذهبت إلى البحر، دسّت رأسها فيه، قالت: "يحبني".
قال البحر: "أنا أيضا".
من يومها أنا وحيد.
2* قلت للبحر: "أحبّك لا تقل لها هذا". لم يطق صبرا. ذهبت إليها بجرحي، دسّ ملحه فيه، قال: "يحبني".
قال الشّعر: "أنا أيضا".
من يومها أنا غائب.
***
(3)
باب الخروج
(تفكيك المعرفة)
من حقّك أن تعرف "رأس الرجاء الصّالح"، رأسك ثابت بين كتفيك.
من حقّك أن لا تعرف "عين جالوت"، عيناك غائرتان في رأسك.
من حقّك أن لا تعرف قهوتهم "العالية"، مادمت تشرب قهوتك في "بئر الطرّاز".
من حقّك أن لا تعرف كيف تلهو بأسلحتهم، لديك في صرّة قلبك ما به تعبر الحرب.
من حقّك أن لا تعرف كيف تنتصر عليهم بعصيّهم. يكفيك أن تنتصر على نفسك.
قصبتك عصاك، بعصاك ترى.
من حقّك أن لا تعرف هذه المعرفة الملساء، تدور كالخذروف، لا تردّ يد لامس.
بينما صراطها المستقيم (من ساحة المدرسة إلى ميضأة السّوق) يرمش من بين الأصابع بعينين مطفأتين.
من حقّك أن تنحاز إلى الصّراط الأعوج. وإذا كان لا مناص، أنت الغريب فيهم.
المهمّ أن لا تعرف....على كيف غيرك.
اذهب إلى آخرك كي لا تعاشر كلبا نباحه على نفسه، امرأة تطلّ فيك على النهاية، أطفالا يرضعون التلفيزيون.
اذهب إلى أقصاك تاركا لهم أن يدردروك كما الفسقيّات. أن يمحوك مع الألعاب الشعبيّة وأشجار التوت الربّي.
ليست المعرفة نهرا.
لا أنت هيرقليطس.
ليست المعرفة قدسا
لا أنت صلاح الدين.
أنصت إلى هاويتك.
أطلق كائناتك الزّجاج.
اللسان الذي به تتلعثم، يتقدّم بتؤدة. عند مصبّ الكلمات.
كن عاليا انظر إليهم / كن عميقا أصغ إليهم
تاركا لهم أن يقرطسوا الحلم / في ورق السيلوفان
قف بلسانك المرّ على شفير العالم.. تر المعرفة تؤتى من باب الخروج...
ومن هذه التجارب إلى تجربة أخرى لمربي مبدع لا يزال يمارس المهنة مع حنكته على مستوى الإبداع الشعري وهو الأستاذ عادل بوعقة الذي نختار له من مجموعته خدوش الماء نص قصيد القناديل والمقصلة.
قناديل في بعض نهج
وغرفة.
وليل يخيّم في الأروقة وفي كلّ بيت:
فقير يجوع.
وفي كلّ ركن:
تأسس خوف
ورعب
من العنكبوت المرمّل بين الشظايا
وبين القميص المرقّع.
حذار...حذار من الأغنيات
هنا مخبر للكلام البسيط
هنا العائدون إلينا ضحايا
بمقهى..."وبار"
وسيجارة قاتلة.
قناديل للراكعين إليهم
ونحن لنا المقصلة.
أو كنص الأستاذ المربي والشاعر المبدع عادل الهرسيكلّما نادى المدى
يا رفاقْ لماذا ؟ كلّما نادى المدى، أو نرى ريحَ المُنى تجري بِنا تَمتَطي ظَهْر البُراقْ . نُلقَى في الجبِّ و يزحفُ الموتُ على أوجاعنا الخُضْرِ و تمسحُ الشمسُ دمعتها الحَرَّى و كأنّنا أرضُ العراقْ . و لماذا ؟ كلّما رُمنا العُلاَ نزدادُ جرحًا من أسَى . فَمنْ لنا ؟ كيْ يزيلَ الخنجرَ المزروعَ دُونَ الانعتاقْ و مَنْ لنا ؟ كيْ يُداوي جُرْحَنَا السّماويَ المُراقْ مَنْ لنا ؟ مَنْ غَيْرَكُمْ ؟ بالأمسِ قد كُنّا رِفاقْ
وخاتمة النماذج التي أقدمها من الأدب المعاصر لأيامنا هذه وهي إحدى التجارب الراهنة. أقنصها من صاحب الطرح ذاته في مقطع أول قصير.
بيض قلوبنا
على مدى أيامها
حمر أيادينا
حين يجهل أعدائها
وساعة تستصرخنا
نحن للفدى رجالها
المختار المختاري 'الزاراتي'
نتمنى أن نكون قد بلغنا بما يفي ويكفي ويبرز حقّ المبدعين مربون كانوا أو من غيرهم.
ونتمنى أن يغفر لنا ضيق المجال غيرهم من من لم نأتي على ذكرهم رغم الإجادة والتميز بالوفرة والكثرة وضيق المجال ضدين وحدين قاتلين.
المختار المختاري 'الزاراتي'
تونس 28/02/2018
Comments