المختار اللغماني الشاعر الثائر “الذي أقسم على انتصار الشمس” 'نص المختار المختاري 'الزاراتي''
- zaratimoukhi
- 2 août 2020
- 25 min de lecture

عاشت بلادنا بين نهاية الستينات والسبعينات أيامها الذهبيّة التي لن يمحوها تنكّر السلطات المتعاقبة الخائفة من أهميّة هذه الطفرة الوطنيّة التي مثلت أهمّ منعرج تاريخي مسّ أهمّ العناصر التي تأثيرها حتى الراهن اليوم مازال يثمر ويزهر وينتج إبداعا في جميع مناحي الحياة بوطنيته وتونسيته رغم ما أفرزته السلطة الحاكمة من ردّة وتخلف وجهل مبرمج وتصحير ثقافي وفكري خدمة لديمومة وضعها حكاكم مطلق وناهب وحيد وتابع بالضرورة مرتهن للخارج بواجهتيه العربية والغربية حسب الظروف ومصادر الارتزاق. قدّام أهمّ شعار أنتجه الفكر التونسي مع هذا الجيل الذهبي. "لا شرقيّة ولا غربيّة"
إنّ هذا الجيل الذهبي المؤسس الذي فرض وجوده بقوّة الحجّة وحكمة الفكر العلمي والنهل المعرفي والإرادة الوطنيّة والفعل الإبداعيّ والحضور المكثّف المتميز. (مع عدم إغفال الممهدات التاريخيّة للسابقين الذين بسطوا طريق البحث والتجريب والتجديد وهم أسماء عديدة كان أهمها بالنسبة لهذه المرحلة ما تركه الشابي من أفكار) الذي نشر من محاضرة 'الخيال الشعري عند العرب' وفي إحدى عناصر التجديد والتحديث ما عبر عنه في قوله: - عن وظيفة الأدب ومعاصرته قوله التالي:
"لقد أصبحنا نتطلّب أدبا قويّا عميقا يوافق مشاربنا ويناسب أذواقنا في حياتنا الحاضرة. بما فيها من شوق وأمل. وهذا ما لا نجده في الأدب العربي لأنه لم يخلق لنا نحن أبناء هذه القرون وإنما خلق لقلوب أخرستها سكينة الموت" وهنا أتحدث عن واجهة من واجهات هذا الجيل الذهبي وهو واجهة الشعر تحديدا.
وهو مجال محاوراتنا في هذه الندوة التي رغم تأخرها النسبيّ فهي تأتي في وقت يستوجب فيه تعرية وتوضيح وتشريح حاضرنا الذي لم يخرج عن مؤثرات هذا الجيل قيد أنملة رغم التغييب المتعمد لأفكار هذه المرحلة ومستندها النظري الثوري الذي تخشاه كلّ الأطر والواجهات السياسوية التي تجعل من هدفها تجهيل وتصحير وتفقير العقل الشعبي لتتمكن من التحكم وتنفرد بالحكم المطلق وتضمن راحة من السنة المبدعين المستنيرين المفكرين المنتمين للوطن أولا وأخير ومن جهة ثانية تضمن تبعيّة البعض لها ودفعهم نحو تشكيل أبواق لها. وهذا ما لا يزال يمارس حتى أيامنا الثوريّة جداااا هذه التي نعيش.
ورغم كلّ ذلك فإنّ قاطرة خفيّة لا تزال تشكّل بحضورها الجسدي والإبداعي (نعني بهم العناصر التي لا تزال قيد الإبداع والحياة بيننا من هذا الجيل) وأيضا من يشكّل بما ورثناه عنهم بعد مواراتهم وانتهاء عذاباتهم التي راوحت بين القتل في الحياة وكتم الأصوات وبين الملاحقات الأمنيّة للبعض منهم وتهميشهم وتغييبهم عن منابر الاتصال بالشعب خوفا من إبداعهم وأشعارهم وما تكتنزه من أفكار وحقائق وأيضا شعرية وشاعريّة تلامس قرار وجدان التونسي في كلّ ربوع الوطن.
ومن هنا أنطلق مع أحد العناصر والأصوات الشعريّة الوطنيّة التي خلدت في دفتر الشعر التونسي بما مثلته من ثورة على قوالب الشعر الكلاسيكية وانتمائها للوطن شعرا وحركة وفعلا.
ونعني به الشاعر الوطني الثوري الطليعي
*فمن يكون الشاعر المختار اللغماني أحد الأصوات الشعريّة البارزة على أيامها القصار بيننا؟
و*الذي كتبت عنه جريدة الصدى التونسية بتاريخ 17/01/1977 في ركن 'أبيض' لحظة وفاته:
*(كان مختار كأغلب الشعراء يتألم، ويحيا بالحزن المستمر القاتل، ويعيش وبين جنباته مأساة تلخص ضياع جيله وغربته الفكرية والاجتماعية، ولم يتحمل طويلا ذلك الحزن القاتل (...) فمات في بداية المحنة.. مات وعلى شفاهه ألف قصيدة على وشك الولادة.. مات قبل أن يقول كلّ ما عنده من شعر لا يلتزم إلا بالإنسان...)
***
* ولد المختار بقرية الزارات من مدينة قابس سنة 1952 وتلقى تعليمه الابتدائي بها بين سنتي (1958 و 1964) ليلتحق بالمعهد الثانوي بقابس المدينة ومنه تحصل على شهادة ختم الدروس الثانوية (بكالوريا آداب) سنة 1970 ليلتحق بمقاعد كلية الآداب بالعاصمة والتي يتخرّج منها متحصلا على الأستاذية في اللغة والآداب العربية سنة 1976. التحق بأسرة التدريس أستاذا للعربية بمعهد تستور لكنّ الموت اختطفته ولم يمكث على مقعد التدريس سوى شهرين قمريين.
* عاش المختار 25 سنة تقريبا عاصر خلالها أهمّ التحوّلات والانكسارات والهزائم والخيانات وأيضا أهمّ التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي أسست لحاضرنا اليوم. ومنها كان مستنده البحثي الفكري والشعري في آن. الذي جمّع بعد موته ببعض أسابيع قليلة وسلمت للدار التونسية للنشر والتوزيع STD ضنّا أنها ستكون أعمالا شعريّة كاملة إلا أنّ إدارة الدار اكتفت بنشر 33 قصيدة جاءت في 114 صفحة من الحجم المتوسّط. وتركت أغلب أشعاره على رفّ معدّ لإهمال ما يمسّ من النظام على أهميته الشعريّة والثقافيّة التاريخيّة. كما قامت جمعيّة البديل الثقافي بمارث بطبع مجموعة من قصائده في عدد خاص من مجلتها "البديل الثقافي" حمل عنوانا "حفريات في جسد عربي" (العدد 5 لسنة 4 ماي 2014) وجمعت فيه نحو 97 قصيدة في 142 صفحة. وفي حجم متوسط. أغلبها لم يقع نشره بالمجموعة المذكورة المنشورة سابقا وأهميتها تكمن في أنها نشرت عديد القصائد التي نشرها الشاعر في بداياته في صحف تونسية كالصباح والملحق الثقافي لجريدة العمل ومجلة الفكر وبثت في حصة هواة الأدب الإذاعية.ومن خلال اطلاعنا يمكن لنا تقسيم مسار القصيدة المختارية إلى ثلاث مراحل مهمة تعتبر محاور أساسيّة لتعرية وكشف مراحل تطوّر القصيدة عند الشاعر التونسي عموما في تلك المرحلة.
* نرتبها في عناوين تالية:
-1- البدايات
-2- مرحلة البحث عن الذات الشعريّة
-3- مرحلة الانتماء والانتصار لتوجه ووجهة شعريّة محددة وواضحة. وهي مرحلة يتلازم فيها الانضباط للقصيد الطليعي وللالتزام بمقاييسه النضالية الثورية معنى ومبنى. وبذلك يكون الشاعر المختار حالة نوعية لدراسة هذا التلازم والالتزام الشعري والفكري الذاهبان في شكل متوازي جنبا لجنب.
***
*كتب المقالة النقديّة النظرية والنقديّة. ومن مقالاته النظريّة (حول رأي الزناد في الشكل التحرّري الشعري) العمل الثقافي 1970ومقالته (بين الشعر والنثر) بصحيفة العمل الثقافي 1970. *والمقالة النقديّة كمقالته (ماذا حقق المجزوم بلم؟) وجزء منه ثان مع عنوان فرعي (المضمون)بعد تقريبا شهر عن السابق بنفس الجريدة العمل الثقافي 1970. وكتب مسرحية لم يقع نشرها. *كما كتب القصيدة المشابهة للبيان الشعري التنظيري حيث استخدم الفكرة بأدوات الشعر وعبر بها عن عناصر أساسية للقصيدة التي تبناها كقصيدة حبّ الكلمة الشعر والحياة ألام شاعر الشعراء وعن الشعر وتقديمات للعبارة الشعرية وقصيد عبارتي شعبية إلى آخره من محاولاته تقديم أفكاره في ثوبها الأصلي ومحورها الأساسي الشعر والقصيدة. * كتب الشاعر في شبه مذكرات شاعر حول كتابته للشعر قائلا ومقسما مراحل تطور قصيدته وفي مرحلة كان يخوض فيها مرحلته الثالثة الأخيرة:
* {هذه هي المرحلة الثالثة منذ تفجّر شيء في داخلي (...) كانت المرحلة الأولى مرحلة المراهق المثالي الحالم المحبّ انتهت بالصدمة. وكانت المرحلة الثانية مرحلة الإنسان المحطّم الفاشل في أحلامه ومثاليته، يقوده يأسه إلى الليل والأحزان والضياع. وتطلّ المرحلة الثالثة وفي قلب هذا الإنسان البسيط الغريب بقايا جنين إلى مرحلة الأولى وبقايا آثار من المرحلة الثانية وتطلع إلى مرحلة ثالثة أفضل... فما الذي يخفي له الغد؟ إنّ ما سيحدث سيكون كالعادة مسجّلا بهذا القلم الباحث عن كتابة الشعر.}
***

زفرة (2)
لذكرى الأس تعذيب * وحالي اليوم كم يزري
ودرب الغد مسودّ * طويل بان كالبحر
وكم خوفي من البحر * وسود الموج لو تدري
فأين تكمن السلوى * عذاب كلّه عمري
المختار اللغماني
الشاعر الثائر “الذي أقسم على انتصار الشمس”
* "أحبوا تونس... وهم المخلصون لها الذائدون عنها أن يكون لهم إزاء الأدب التونسي موقف آخر شبيه بالموقف السياسي(...) لماذا لا نخرج بالأدب التونسي إلى العالم كما خرجنا بالعبقرية السياسية التونسية..." البشير بن سلامة 'دفاعا عن الأدب التونسي –الفكر- ماي 1967.
المختار المختاري الزاراتي
'صيف 2020'
*(كتب صديقه ورفيق دربه الناقد المشهور بجديته وصرامته وسخريته اللاذعة. أحمد حاذق العرف. فكتب في مقال تأبينيّ (بجريدة 'ألصباح' 1977)
***
*(...كان أحد الشموع التي خسرها الشعر التونسي الجديد.المليء بالوعود والعطاءات.كان أحد الشموع التي فقدتها الطليعة الأدبيّة ببلادنا وهي تدخل منعرجها الجديد...كان أحد الشموع التي خسرتها الثقافة الوطنيّة المطلّة من وراء الأفق والتي نسعى جميعا إلى توفير مناخها...) ***
ولم يكن كلام الناقد مجازفة أو تجديف... بل من نظرة عارف بالدورين اللذين كان المختار يقوم بهما على المستويين الإبداعي الشعري والتأسيسي الباني من خلال مساهمته في تأسيس النوادي الأدبية والثقافية والشعرية مع حضوره التوعوي كمساهم فيما يجب أن تكون عليه التحولات الشعريّة. (حسب رؤيته النابعة من تحليله الذي أنتج لديه خطا شعريا يشترك فيه مع جماعة مشابهة له وفي ذلك انتصار لثقافته المكتسبة في زمنه ومعايشته لتنظير الأفكار التي تهم الشعر خصوصا كأداة تعبيريّة حقيقية وجب أن تكون شعبيّة فهي بذلك تكون في مكانها الطبيعي لأن الشعر بالنسبة له ولجماعته شعبيا وليس صوت البلاط أو لا يكون) - وبرؤية حداثية تحريريّة للشعر ودوره فحال الشعر والشعراء كما رآها ووصفها في قوله: قصيد *(الشعراء):
ـ خززت أفكارنا...ركدت
أضحت مستنقعات...عشش فيها البعوض...
باض في القذرات.../...
- ويواصل فاتحا أفق البناء لقصيده وهو يخاطب روحه الفاعلة قائلا:
*(سأعرف كيف أبني أفكاري...
أبنيها... أنا الباني...
أعجنها بأحزاني.../...)
- ومن المنطلق وجب أن أنبّه إلى أنّي لا أدّعي عظمة وهميّة للشاعر. ولا أأسطره بقدر ما أتوخّى موضوعيّة ألمستقرأ إذ كان وما يزال أحد أهمّ النماذج الأصيلة والمتأصلة في المشهد الشعريّ في تونس في زمنه وعلى أيامه لذلك كان وسيظلّ أحد العناصر التي لابدّ من الوقوف عندها بالدرس والتحليل والاستبطان لواقع وتاريخ تطور القصيدة في تونس على أيامه الذهبيّة التي عاش تفاصيلها كاملة.
*من خلال نموذجه الذي كان ومازال عند الكثيرين ذاكرة وذكرى وشهادة على مشهد شعريّ حقيقي. لتونس الستينات والسبعينات بحراكها الثقافي والفكري وكلّ المؤثرات فيه وعلى رأسها العامل السياسيّ الذي كان سندا لكلّ مبدعي وفنان تلك المرحلة شعرا ومسرحا وأدبا وفنون تشكيليّة. وهنا أجدني أتفق مع كلام الدكتور هشام بوقمرة الذي رافق ولازم كنوز شعلة الأدب السبعيني وعلى رأسهم شاعرنا المختار (و حركة الطليعة الأدبية في تونس) في قوله عند تأبين الشاعر في جلسة بنادي الشعر بدار الثقافة إبن خلدون. الذي كان الشاعر من بين مؤسسيه.
*ـ حيث قال: (...لم يكن صوتا فريدا ولكنّه كان صوتا داخل رافد أصيل ساهم في حركة شعريّة إبداعيّة في صدق وإخلاص...)
وهو الذي حدد دوره الشعريّ بقوله * (عن الشعر):
الشعر لا يبيعه البائع
ولا يشتريه زبون
مطعون أنا
ككلّ جياع الأرض
محتاج إلى الصياح
محتاج إلى الرفض
محتاج إلى حمل السلاح.................
إلى استعمال اللفظ.../...
وأمّا رفيق دربه الشاعر والصحفي والأديب الراحل عبد الحميد خريف فقد كتب في مقالة من مقالاته "النورس لا يتعبه الرّحيل" ذاكرا رفيقه المختار بعد فراق عشرين عاما بقوله:
* "كنّا معا نستظلّ بنخلة جمعتنا وإياها غربة المكان والزمان... كنت أكثر شجاعة منّي وأصدق شعرا... كنت الصمت الذي يتجاوز تعليقه إبتسامة فيها الكثير من الكلام الذي لا يفهم كنهه غير مجموعة "أقسمت على انتصار الشمس"
"... هاهي الأرض تسودّ من اليبس.. وهاهي الحمائم البيض ترحل
تعدّ أعناقها نحو الشمس... وقد تصل وقد لا تصل
مرّت الأعصر بع الأعصر.. تشققت بحار.. إنبسطت جبال تحت الزلزال
وتحت الإعصار... تغيّر وجه القمر...
ومازال الشعراء الغاوون يقولون ما لا يشعرون..."
***
*{المختار اللغماني شاعر ولدته الزارات لينتهي رقما رمز في شوارع العاصمة}*
* كان وسيظلّ المختار أحد مفاتيح الكلمة التونسية الصادقة الحقيقية المعبّرة والفاعلة.
***
* رغم قلّة المصادر التي تخصّ هذه المرحلة {البدايات المبكرة} لشاعر نحت اسمه عنوانا للقصيدة التونسية الملتزمة. فإنّ المتوفّر لدينا يمكننا من تلمّس بعض تفاصيل البدايات التي اتسمت فيها هذه المرحلة لدى المختار اللغماني بارتباطه الرئيسي (كغيره من أبناء جيله وحتى من الأجيال السابقة واللاحقة) بعمود الشعر وعروضه. وهذا ما يعطينا فكرة عن المنطلقات المرتبطة بمقاعد التعلّم والدراسة في مرحلتها الأولى (التي نسميها اليوم مرحلة الإعدادي) حيث يدرّس علم العروض ونماذج الشعر العربي الرئيسة. والتي منها انطلق أغلب الشعراء في تلمس طريق الشعر الكامنة فيهم وأغلب الظنّ أنّ المختار من هنا سلك الطريق. الذي اتسما لديه بالاختصار والتكثيف على شاكلة القصيد البرقي أو حتى ما يسمى اليوم بقصيدة الومضة. بما تشمله من اختصار وتكثيف. ثم انطلق في كتابة القصيد المتكامل الأطول نسبيا. والذي ارتبطت مواضيعها بالحبّ في أغلبها. ولكنها جاءت مجددة ومحدثة في حالاتها ووضعياتها التي كتبها الشاعر. فهي ليست بالغزلية المتعارف عليها ولا حتى الهجائية التقليدية وإنما حملت نمطا مغايرا فيه الكثير من واقعية أحاسيس زمانه وتفاعلاتها الاجتماعيّة. مع لمسة سخرية مرة. وهنا نورد هذه المعزوفات التي نكتشف من خلالها تطوّر الشاعر أيضا ورحلته من العمودي إلى التفعيلة. من خلال برقياته. ففي العمودي قال: في قصيدة 'الهويّة'
أحب الخيال لأنّ الجمال * يشدّهه الواقع المؤلم
وأهوى السخافات والغفوات * لأنسى الشقا عندما أحلم
ودنياي همّ وحزن وغمّ * فكيف أعاني ولا أسأم؟
- أيضا نلاحظ ذلك في قصيدته 'إلى ثقيل' وما فيه من السخرية اللاذعة.
من هواك يا فلان بي بريح * ربّما يسحرني الشيء القبيح
هزني صوت الملاك صوتك * فيه عزف للأفاعي وفحيح
آه لو تريحني يوما بهجر * إن هجر الهمّ يا همّ مريح
وأواصل في إبراز تطوّر سيتكاثف تدريجيا مع تطوّر العامل الفكري والثقافي لدى الشاعر بتطوّر تفاعله مع الساحة وطنيا وعربيا وعالميا من خلال الاطلاع المعرفي والمماحكة. فمن الواضح من خلال منشورات الشاعر أنه ومنذ بداياته كان مواكبا ومطلعا على ما يجري في ساحات الشعر والفكر خصوصا عند بلوغه المراحل النهائيّة من دراسته الثانويّة. إذ أنّ الشاعر ومنذ هذه المرحلة كان يراسل ويرسل أشعاره التي ينتقيها إلى جريدة العمل والصباح وبالأخص إلى الحصة الإذاعية المشهورة في حينها والتي تعتبر المنبر الذي أذاع واكتشف جيلا برمته من الشعراء والأدباء في تونس ونعني بها حصّة { هواة الأدب }.
* ففي ومضة شعريّة ساخرة بمرارة المحبّ المهزوم مرحليا يقول:
صديقتي
لي أمل أخير
من حبّي الأكبر من كبير أن أصفعك...
* وفي أخرى وكان يدرس ساعة اللغة الانجليزية في تاريخ 24/02/1971 قال:
آلامي أحياها وحدي
وأعيش آلام الناس
يا قلبي يا وتر ورديّ .. كم يفعل فيك الإحساس
* ومن خلال هذه الأخيرة نكتشف عمق إحساس الشاعر بكلّ تفاصيل الحياة من حوله وانتصاره للناس تاركا مهمة ذاته للحظات الوحدة والانكماش. والبحثيّ عن ذاته في هذا العالم المتحرّك إلى ظلمة كالحة. والشاعر المختار لم ينفصل عن إطاره هذا حتى آخر حروفه بل زاد عليها توجها وتنظيما وترتيبا عند كل محطة تطور في أفكاره الشعرية كما الفكرية. لذلك نجد أشعار هذه المرحلة منضبطة للغة العربيّة كوعاء رسميّ لها. مع الانضباط للإيقاع ومنه العروضيّ الصرف. ولكن الذي شدّ انتباهنا وهو إيذان صريح بالتبادلات في الاختيارات المذهبية الشعريّة التي قطعت مع العتيق الموروث العمودي ويعرّي جانبا ثانيا من اهتمام الشاعر بما يدور حول القصيدة الوطنيّة وبحثه عن وعاء يضمن له صدقيه الإحساس والمعنى والتعبير الشعري الثوري المواكب والمعاصر. فنجده وهو بعد على مقاعد الدراسة الثانوية بمدينة قابس قد تبنى الحفر والبحث والتجريب في التجارب الجديدة التي وهي تجربة الشعر الحرّ في استمراريته لهيمنة العروض الشعري الذي استعاض كتاب الشعر الحرّ عن ال 16 بحرا ب 8 تفعيلات فقط. تفعيلات البحور الصافية دون غيرها. والقصيد العمودي المعتاد يتشكل من أبيات شعرية البيت يتكئ على مصراعين (الصدر والعجز) أما قصيد الشعر الحرّ فإنه يتشكّل من سطور شعريّة عوضا عن الأبيات وعوضا عن المصراعين تكون السطور الشعريّة تختلف عن بعضها في الطول وذلك حسب عدد التفعيلات في السطر ففي السطر الأول تكون تفعيلة، وفي الثاني يمكن أن يكون عدد التفعيلات 2 – أو 3 – أو 4...إلخ. وكان المختار كغيره من أبناء جيله من بين من جرّب الكتابة الشعريّة في هذا الاتجاه كما في قصيدته "ليلى والليل وأتعاب أخرى" التي يقول فيها:
هذا الليل الأليل يا ليلى
يلفحني
يجرحني
ما أظلمه يا ليلى ليلا
يمنحني كيل الأحزان
ما أنقلها كيلا
تملأني أمواج الظلمة في حرمان...
سيلا يتبع سيلا....
هذا إلى حين غلبة الظهور لحركة الطليعة الأدبية على اثر الهزيمة العربية في حرب جوان 1967. التي انطلقت من موجة أولى هي حركة "في غير العمودي والحرّ" لتنتهي حركة أطلق عليها حركة الطليعة الأدبية. التي تحمّس لها الشباب الطلابي الواعي والمدجج بأسلحة العلم والفكر والاطلاع الثقافي الشامل. ومن بينهم الشاعر المختار الذي جسّد في تجاربه الشعريّة ومنذ آخر مرحلته الثانويّة بمعهد قابس. حيث انتشرت الأفكار وتطارحت ونوقشت وبنا على ضوئها كلّ موقفا من الشعر والفكر معا إمّا في ظلّ نوادي الأدب أو في تجمعات متناثرة تحوم حول مجالس الشعر والأدب والفكر التقدمي الذي انتشر على أيامه.
* ومن هنا يمكن أن نتتبع سير الشاعر في منهاج كتاباته الشعريّة والتطور الأول الذي طرأ على قصيدته حيث منذ البدايات انجذب وتماهى مع قصيدة (في غير العمودي والحرّ) التي كتب عنها الشاعر التونسي والأديب سوف عبيد المجايل لجملة هذه الحركات التجديدية الثوريّة للشعر التونسي ولاعبا في تفاصيلها كشاعر رافق المختار لبعض زمانهما بالعاصمة. قائلا "تلك الموجة الشعريّة التي ظهرت خاصة بين 1968 و 1974 حيث مثلت شكلا جديدا في الكتابة الشعريّة أما الثلاثة فهم: الحبيب الزناد وفضيلة الشابي والطاهر الهمامي الذي أصدر بيانات عديدة في التنظير لذلك الشعر ثم يأتي بعدهم في الظهور والحضور الشعراء نورالدين عزيزة وأحمد الحباشة ومحمد أحمد القابسي والمختار اللغماني..." ونظم قصائد معنونة ب { في غير العمودي والحرّ } من بينها قصائد: صيحات و قصيدته 'وسط الظلمة' التي أيضا ذيلها ب "في غير
العمودي والحرّ" التي قال فيها:
قلبي في السجن غريب
وقلبي في الحبّ غريب.. وسط الظلمة
وأنا يا أم معلول.. أطلب الرحمة
أصيح وحدي وسط الزحمة
أخال الله غير قريب وسط الظلمة
*وحركة في غير العمودي والحرّ هي حركة انبثقت عنها الطليعة الأدبية ومن أسسها: * والتي اعتبرت امتداد طبيعيّ للشعر العربي الكلاسيكي وبالتالي لم توصّف بأنها مارقة أو خارجة عن الصفّ والتي صنفت عند البعض كشعر "مقطعيا نبريا" يجمع في خصائصه ومميزاته بنية مشابهة أو مقتنصة من الشعر الغربي (الفرنسي أو الانجليزي مثلا) مثلما أوضح ذلك محمد بن صالح بن عمر في 'لمحة عن الاتجاهات الشعريّة الجديدة' وجهازها المفاهيمي يتمحور بشكل مختصر في جملة ثنائيات هي.
1- ثنائيّة ال 'نحن' و ال 'هم' في مضمار تحديد الذات.
2- ثنائيّة المضمون والشكل في مضمار تحديد الرؤية النقدية والإبداعيّة.
*وهذه الثورة الشعريّة التي انطلقت من صفحات مجلة الفكر من خلال تجربة قصيرة لغير العمودي والحرّ والتي أفضت إلى بروز حركة الطليعة الأدبيّة التي اختلفت مع ما جاءت به مجلة شعر العربية وحدد بن نيس معالمها كالتالي: " بكونها ترى إلى:
-(1) عبقريّة اللغة العربيّة تكمن في نحوها لا في أوزانها.
-(2) النظام الذي يقتضيه الشعر كامن في اللغة اليوميّة وكنه الشّعب ثمّ.
-(3) القضايا الإنسانيّة الخالدة لا متاهات اللفظ والقوالب هي طريقة انطلاق الشعر."
. وفي هذه المرحلة جرّب المختار هذا النهج الشعري محاولا إيجاد المساحة التي يرغبها لتشكيل رؤيته ورغبته وتصوره لما يكتب. ومنها قصيدته "إلى سادتي الكبار" التي جعل لها عنوانين فرعيين الأول 'في غير العمودي والحرّ' والثاني 'من وحي "المجزوم بلم". أو قصيدته "صيحات" التي جاءت بعنوان فرعي 'في غير العمودي والحرّ' إلى آخره من تجاربه في هذا النهج الشعري. ونقطف من قصيدته "صيحات" هذا النموذج الذي نبرهن من خلاله استيعابه للفكرة وتماهيه معها إلى درجة مهمة من التمكن. كقوله:
-الضيق-
هذه المدينة الضيّقة
كسجن عالي السور
كشقّة حيطانها مشققة
لم تحو قصّة شيّقة
لم تسمع ألحان منطلقة
هذه المدينة الضيّقة
شمسها كالنار في التنور
لاهبه محروقة
ومحترقة
في هذه المدينة الضيّقة
الكلمة مختنقة
فالدمعة تطلّ في تردد...
قلقه
والضحكة سرقة
في هذه المدينة الضيقة.../...
* وتخللت مرحلة ما بين الحركتين (في غير العمودي والحرّ) و (الطليعة الأدبيّة). حركة قادها ومثلها الشاعر والأديب محمد المصمولي وهي "القصيدة المضادة تفجير دائم للقوالب". كما في مرحلة متقدمة سينسبها إلى قصيدة النثر ولكنها تونسية وليست شرقية أو غربية. من خلال هدم الهياكل الموروثة. ترفع الرفض تاجا. وتثور على نفسها باستمرار. وعرفها المصمولي بقوله "ليست فنا يحتاج إلى تسمية لأنها ليست شعرا "كلاسيكيا" أو حرا... بل تتخطى تلك الهندسة العروضيّة التي لا فضل لها الاّ في كونها من تراثنا" وعلاقتنا بها يقول المصمولي: "الإضافة والتحاور معه ومع تراث الحضارات ألأخرى وميزها عن النثر بقوله "خلافا للنثر والنثر الفني والنثر الشعري تمتاز بأوزان وقواف أخرى وآفاق وأوتار تنبع من طرافة الشاعر لا من ذاكرته." ومن مقولاته "الشعر هو الشاعر" والشعر" ثورة دائمة وتساؤل لا ينتهي" ولا تقاس شاعرية الشاعر بمدى "طاعته للماضي" بل بالقدرة على "تجديد الحياة وانتشالها من الهرم والجمود والتعفن والزيف". "إنها خلق من الألف إلى الياء بطاقة تعريفها صاحبها وجها لوجه مع العالم المعاصر" محمد المصمولي الذي كتب عن الشاعر المختار مقالتين على الأقل إحداها عنونها ب "المختار اللغماني بين العبارة الشعبية والعبارة الشعريّة" منها نقتطف التالي:
***
*' بهذا الوعي جابه ابن الريف المختار اللغماني حالات إنسانية لا تتحدد بمكان معيّن. وانعكس ذلك على حسه ونبضه فأصبحت العبارة عنده ألما يسّاقط على الورق. ولأن الذي يحترق هو المختار فان الورق بقي وعاء يحفظ آلمه '* ***
ومن هنا نفهم ذهاب الشاعر نحو التجريب فكتب من خلال أفكار المصمولي السابقة الذكر كما في "قصيدته" "خطوات أولى في منطقة ألوعي" أو في "قصيدة" عشق إلى 'هاني جوهريّة" أو "قصيدة "حوار على رمال بنزرت" وقد وردت في مجموعته (أقسمت على انتصار الشمس) بشكل متتالي الترتيب. وهذه القصيدة الأخيرة نورد لكم منها ما يمثّل مثالا عن الانضباط للتجربة الشيء الذي يجعلها أحدى النماذج التي شملت كافة العناصر المكونة والمركبة للقصيدة المضادة أو ما اسماه البعض ومن بينهم مؤسسها وصاحب فكرتها ومنظرها الشاعر المصمولي الذي قاد أيضا بفكرته مفهوما جديدا هو مفهوم التجاوز الذي سادت فكرته ردحا من زمن تطور القصيدة التونسية.
الشمس الغاربة في الأفق * الغارق نصفها في الشمس
الشمس المصفرّة الشفق * الذابلة المثقلة بالنوم
الشمس الخجلى كالعادة تنحني للقهر * وتنهزم حتّى هذا اليوم
الشمس تعود لتنام على حقدها * مع انهمار الليل
الشمس تكرك على سرّ * وبيضها يفقس على الخيل
أقسمت بالبدلات الزرقاء * مسوّدة بالمازوط والصديد
أقسمت بالمطارق... تحت العضلات... تسوّي الحديد
أقسمت بالسنابل... أقسمت بالمناجل... سنة الصّابه
أقسمت بالخمّاس... يمنح الأرض شبابه
أقسمت بزيتون الساحل... بتمر الجريد
أقسمت بالشتاء في جندوبة... بالصيف في مدنين
أقسمت بالعمّال وبالفلاّحين * أقسمت بالجبل الأحمر والملاّسين...
هذه الشمس المصفرّة خجلا... يشرق وجهها ذات صباح بدم جديد
تملأنا أملا... وتملأ قلوب الأشقياء والعبيد.../...
ومن خلال هذا الوعي الذي تجذّر لدى الشاعر من خلال النهل المعرفي الفكري والأدبي عموما سواء من خلال مقاعد الدراسة أو اطلاعه الخاص تمكّن من تحديد خياراته الشعريّة بوضوح مثلما حدد مواقفه الفكريّة بوضوح أيضا فكانتا متشابكتان مترابطتان إلى حدّ بعيد والى درجة يصعب التفريق بينهما عند دارس أشعار المختار اللغماني فالارتباط عضويا غرامشيا لا انفصام يشوبه.
* ولئن كانت انطلاقة حركة الطليعة مرتبطة ببيانات تصدرها قصيد لمحمد الحبيب الزنّاد بعنوان "الشيّات" في شهر ديسمبر من العام 1967 أي بعد الهزيمة العربية الناصريّة بستة أشهر. إلا أنها كانت حركة ثقافية فنيّة وأدبية شبه عامة فهي طالت بخلاف عن الشعر القصة والمسرح والرسم والنقد واتخذت من الثورة على التقاليد والماضويّة شعارها الرئيسي. هذه الحركة التي احتضنها الملحق الثقافي لجريدة العمل ومجلة الفكر التونسية حتى اتخذ قرار إيقاف الملحق عن الصدور فتشتت جمع الحركة ورغم محاولتهم التموقع مرة أخرى في صحف مثل الأيام والمسيرة إلا أن ركودا وكسادا فرض على الساحة الثقافية عموما كان إيذانا بتحولات في نظرة السلطة لدور الثقافة والإبداع في ظلالها.
*إنّ هذه المرحلة التي جمعت في طياتها مرحلتين (بما أننا كنّا أشرنا إلى غياب المدونة الكاملة للشاعر لمعرفة كافة المراحل بالتدقيق لذا اقتصرنا على المنشور منها وما توصلنا للإطلاع عليه) وهما مرحلتي: البدايات + مرحلة البحث عن الذات الشعريّة
*مع العلم أنّ المرحلتين كانتا متلاصقتين ومتوازيتين في تسريع اختاره الشاعر في كلّ عنصر يحسم فيه الموقف. لكأنه كان على بينة من قصر السنين التي سيعيش فيها حلاوة الحلم والشعر. كما فرض عليه ما فرض على أبناء جيله نتيجة عوامل عامة جاورت العوامل الخاصة.. فما هي هذه العوامل المؤثّرة العامة والخاصة التي سبكت قصيد المختار وجهة وحاملا شعريا؟
***
*المؤثرات التي دفعت نحو التحولات الشعريّة لدى المختار وكامل جيله الطلائعي*
1) في ملاحظة بسيطة للتواريخ من الميلاد إلى الوفاة نكتشف أنّ الشاعر عاش أهمّ التحولات الوطنيّة والعربية والإنسانية. فهو عاش فقر شعب يرزح تحت نظام اقتصادي هشّ مرتبط لا استقلال فيه مما تسبب في ارتباطه بالأزمات العالمية بشكل كلّي الشيء الذي أثر بشكل مباشر وصارخ على الشعب من فقر وأنتج حركة نزوح كبرى إلى تمييز بين الحضر والريفيين الذين أطلق عليهم بورقيبة (الآفاقيين النزوح) ومن تأثير الفقر أيضا تراجع نسب التعلم في صفوف الفقراء بينما يتطور الوضع في المقابل عند الميسورين. فكتب على عمال المناجم وعموم العمال بالساعد والفلاحين ومشردي العاصمة وكل تفاصيل بلاد تعيش أحدّ الأزمات وتفرقة الطبقية الشنيعة. إضافة إلى الجهل المتفشّي والتصحير الثقافي الذي جابهت به السلطة الحاكمة التطوّر
الحاصل في محيط النخبة المتعلمة الجامعيّة التي ذهبت نحو معارضته لما رأت في توجهه الاقتصادي ومشروعه
الاجتماعي السياسي اتجاها لا يخدم المصالح الوطنيّة ومستقبل وطن وشعب كادح فقير.
ونذكر من أوجه التعاطف مع الكادحين الفقراء التي عاش تفاصيلها المختار وكتب عنها شعرا قصائد وأشعار عديدة منها قصيدة نقطف منها هذا المثال الذي جمع فيه الشاعر بين توجه شعري وفكري معا. إذ اعتمد فيها منهاج القصيد الطليعي بشروطه وأحكامه وبانيا عليه فكره وتوجهه وهذا مساره ونهجه في مجمل ما كتب من أشعار وهي قصيدته "الموت مساء أمام رفات مهرة الريح". والتي قال فيها:
أكركر رجلي في شوارعها.. يا مدينة سلّمت مفاتيحها للمشترين
وفتحت فخذيها لبائعها...
يا مومسا حزينة مصابة بالشذوذ
وبكل أمراض النساء
يا أمّا قاسية ولدتني ذات صباح.. وتقتلني كلّ مساء...
أدخل اليوم زحام السوق.. أسافر في الأجساد
أبحث عن كنوز الأهل:
أرحل في البطون.. أجدها خاوية
أرحل في القلوب.. أجدها خاوية
أرحل في العقول.. أجدها خاوية
أعود منكم خاوي البطن
وخاوي القلب
وخاوي العقل.../...
ولم يمهله الزمن حين ترك بصمات الحزن الغامق فيه على قصر أيامه التي عاش خلالها أيضا أهم الانكسارات العربية بخياناتها وهزائمها الكبيرة من 67 إلى 73 التي بثت بعض بصيص أمل من جديد ببعض انتصار شبحيّ. كما أنّ الصراع الذي أثر على العلاقات بين مصر عبد الناصر وبورقيبة ومصر التي كانت المتنفس الأدبي والرابط بين الشرق والمغرب بمطابعها ومنشوراتها.
كما أن تحوّل الموقف البورقيبي نحو شعارات جديدة وعلى رأسها "الأمة التونسيّة" بكامل ما تحمله من توجه سياسي أنتج تماهيا مع أجنحة يسارية بعينها لم تكن تؤمن بأسس القومية العربية وكانت صحيفتها الصادرة في باريس، ناطقة بالدارجة (اللهجة التونسية). وهو ما أنتج صراعا أيضا فكريا ثقافيا وإبداعيا عن قيمة ودور اللغة وقداستها في الإبداع ومنه الشعر. والذي كان للمختار فيه موقفا واضحا. حين استخدم اللهجة المحكيّة التي أقحم مفردات منها في قصيده جنبا إلى جنب مع اللغة العربيّة. كاستعماله لمفردات مثل "فارينة" "بزناس" "جبري" "جاكيت" "يا ربي راني جيعان" "طالوا الأيام" ... إلى آخره. كما كان المكان بتسميته الواقعيّة له دلالة تجمع بين واقعيّة القصيد وبين ربط القارئ والمستمع إلى التشابه الإنساني بين ما يحدث في الملاسين أو الجبل الأحمر أو جندوبة أو مدنين بين الريف وشارع الحريّة بالعاصمة من تناقضات موجودة حيثما يوجد الإنسان في أشكالها الطبقيّة.
***
*فما هي العناصر التي جعلت من قصيدته التي نموذج لقصيدة عصره ترد بهذه العناصر تحديدا؟
إنها جملة أحداث ذهبت بجيل كامل نحو ضفة الثوريّة وتثوير الواقع كلّ بمعوله من السياسي إلى الثقافي إلى الإبداعي فنّي كان أو أدبي وهذه الأحداث توزعت بين عالمية ومحليّة. نورد عناصرها التي نراها مهمة في عناصر وننطلق من المحلّي حيث: كانت سنة 1964 شهدت إقرار "الاشتراكيّة الدستوريّة" نهجا تنمويا ونجمت عن ذلك إعادة النظر في تصور دور الحزب الحاكم وعلاقته ب"المنظمات القوميّة" وتصور الحياة السياسية (نتائج مؤتمر المصير العمل 24/10/1964).
وبين 1968 و 1969 تسارعت وتيرة نشر التعاضد بغية التعجيل بتعميم رؤية الوزير النقابي بن صالح. أيضا بروز نجم تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي الذي تأسس بباريس سنة 1963 وما خلفته أحداث ماي 1968 بباريس. بما حملته من ثورة فكرية وفنيّة وثقافية أدبية في الساحة التونسيّة. وإشعاع كبير للثورة الثقافية الصينية الماوية التي منحت الشباب دورا طلائعي مما منحها صيت كبير خصوصا في محيط الجامعة التونسية في حينه. كما نظيرتها الفيتنامية والكوبية بقياداتها وعلى رأسهم الأممي غيفارا والثورات الإفريقية والعربيّة وهو الذي ينطلق نحو أمميته وإنسانيته بموروثة وانتمائه العربي تحديدا. أيضا صعود كبير لنجم الفن والأدب الاشتراكي بواقعيته الاشتراكية وتأثيراتها على الساحة العربية ومن بينها تونس في مرحلة معينة عاشها الشاعر المختار بتفاصيلها. والإضافات النوعيّة التونسية فيها والتي ستكون ضمن أفكار الطليعة الأدبية في جوهرها العام. منها تأثيرات موجات النهضة الأدبية والفكرية العربية اثر هزيمة 1967. وبروز حركات طلائعية أدبية ومسنودة بأفكار جديدة. وهنا تتضح الخطوة الثالثة للشاعر وهي المدرجة ضمن خانة الانتماء والانتصار لتوجه ووجهة شعريّة محددة وواضحة.
وهنا لا نغفل الإشارة إلى موجة الشعر الجديد المشرقي الذي انتشر من العراق ولبنان وسوريا ومصر ليبلغ تونس ومن تونس إلى شمال أفريقيا المغرب العربي. لكن عند بلوغه تونس لم يتخذ على عواهنه وبشكل قرآني منزل وإنّما خضّع إلى معاول الفكر والعلوم والبحث والتجريب لإنتاج ظاهرة تونسية حقيقية وشعر تونسي نموذج وكانت شعاراتهم تتمحور في المقولات التالية: (هويتها "لا شرقية ولا غربية" و قولة "الطريق الثالث بين الغرب والشرق" و "طريق الواقع التونسي، والمجتمع التونسي، والتاريخ التونسي، والمعاصرة التونسيّة، والخلق التونسي، هي طريق التونسة بكل اختصار" (وهذا كلام المبشر بالأدب التجريبي عزالدين المدني أحد رموز تلك المرحلة). وأيضا كما شرح لها أحد أعمدة الطليعة الأدبية 'الشاعر والأديب الراحل الطاهر الهمامي' بقوله "نتحدث عن تونسة التعليم والإدارة والأرض ولا نتحدث عن تونسة الثقافة والأدب والشعر (...) ليضاف إلى غيره من الشعر العربي فلا يكون حشوا عليه وتكرارا له".)
ومن هنا جاءت التجربة الشعرية لدى المختار خصوصا على مستوى اللغة والشكل فكيف كانت اللغة لدى الشاعر المختار تعبيرا طليعيا تونسيا ثوريا محدّثا للشعر التونسي الوطني؟
***
-اللغة في شعر المختار الطليعي
كتب الناقد أحمد حاذق العرف في مقالته (لمحة عن تجربة المختار اللغماني الشعريّة) عن فاعلية استخدام الشاعر لمفردات من اللهجة المحكيّة الشعبيّة هي "إمكانية من الإمكانيات التي يمكن للشاعر أن يستغلها ولكنها ليست الإمكانية الوحيدة". ***
إن الوعي لدى الشاعر الذي يتحدد ليس فقط على مستوى العبارة والمضمون بل والشكل الوعاء الشعري أيضا في الخيار الشعريّ الجامع بين ما هو مضمّن من معاني وبين شكل القصيدة هو واحد في فعله وقراره في متلقيه ومن هنا كان يصرّ المختار على أنّ عبارته شعبيّة لذلك نراه اختار المزاوجة بين بعض الألفاظ "الدارجة" من اللهجة الوطنيّة ليطعّم به قصيدته جنبا إلى جنب واللغة العربيّة في إطار ما يسمى باللغة الثالثة. التي تنزع نحو الالتصاق بالجمهور والشعب الذي في اغلبه على أيامهم لا يزال يرزح تحت وطأة الجهل لضعف نسب التمدرس (رغم انطلاق مبكرة لحملة وطنيّة نحو تعميم التعليم والزاميته). ألم يقول الشاعر في قصيدته 'عبارتي شعبيّة' وبذلك يكون عبّر عن حقيقة توجهه اللغوي في تنزيل شعري. قال فيها:
عبارتي شعبيّة
عاملة ساعية
وواعية... أضربت على الأعمال الفنية.
عبارتي شعبيّة.. قبيحة كالجوع
ولا تصف الربيع... فهي ليست شعريّة؟
(...) عبارتي شعبيّة
يرفضها أرباب الجرائد
ولا يمنحونها حقّ لجوء القصائد
لأنها حمّالة سوء شقيّة (...)
كما كتب قصيدة توضّح بشكل قاطع توجهه اللغوي الذي يجعله وعاء معانيه الشعريّة وهي أكثر وأشدّ وضوحا من حيث أنها تشابه البيان الشعري للنهج الذي يسلك لتعميم الشعري وإعادته لأهله أي الشعب وليس شعر التطبيل للسلطة فقال في قصيدته "تقديمات للعبارة الشعريّة".
أحبها بسيطة كمنازل الطوب
كلباس ريفي من الجنوب
كحديث عامل من بلادي
كفطور الخماس في فصل الحصاد
***
أحبها شقيّة كصندوق شيات
كبرويطة حمال.. كحديث بلا بروتوكلات ولا مقدمات
***
أحبها شقيّة كأبناء الفقراء
في الجبل الأحمر والملاسين
كالمتسكعين البطالين من النازحين
كالسجناء من المسافرين المسروقين...
***
أحبها جميلة كالمنجل والمحراث والمطرقة
كقطعة خبز وحبة زيتون
وشكل طعام في الملعقة
كلباس عامل.. كطفل عار يلحس مخاطه
كبندقية.. وجروح في وجه فدائيّة
***
أرفضها غامضة.. كمدينة الليل والمواخير
كإجراءات مسؤول أو مدير
أرفضها متبعة.. كالضرائب
وكفرض الإنصات.. إلى حديث شطره غائب... (...)
***
أرفضها قبيحة.. كأدوات التجميل
كأصحاب البطون البراميل
كتعابير التعظيم والتبجيل
وكالتصويت "يا عين يا ليل".../...
إنّ تأثيرا الواقعيّة الاشتراكيّة بجميع مفرداتها واضحة في أثر شعراء السبعينات في تونس وليس ذلك بالغريب إذا ما أخضعنا هذا النهج المتبع لمتغيرات دولية وإقليمية ووطنيّة خصوصا. إذ كانت تلك الفترة هي ذروة الصراع والصدام مع سلطة قامعة بوليسيّة استندت إلى قوّة البوليس لترسي الأمن السياسي. ووظفت القانون لتنشئ محكمة خاصة "محكمة أمن الدولة" قدّام المدّ الثوري الشيوعي. الذي فضحها على أنها سلطة عميلة
تكرّس ليس سلطة المستعمر القديم بل وفتحت البلاد لسلطة مستعمر أخطر الإمبرياليّة والصهيونيّة العالميّة
وعلى رأسها أمريكا.
* هذا على مستوى المضامين والمعاني أمّا الحامل الشعري والوعاء: فكانت الطليعة الأدبيّة هي رؤية ثوريّة وطنيّة تونسيّة. ثقافيّة. شعريّة. وأدبيّة عموما. تحاور الأفكار العربيّة. والإنسانية الثوريّة في حينه.وتحدد مجال تحرك المبدع والمثقف العضويّ في صميم هموم شعبه ووطنه وهو النموذج العربي والإنساني. لمعاناة وشقاء هذا الإنسان الذي ينشد الحرّية وحقّه الشرعيّ والقانونيّ والطبيعيّ في الرغيف بعزّة وكرامة. منها يبني عزّة وكرامة وطن برمّته. وشاعرنا لم يكن سوى حلقة من سلسلة يتواصل صهرها حتى الآن وحتى غد الإنسانية. فلا أدب ولا فنّ ولا إبداع بلا قضيّة ولا وجهة نظر تنتمي اليه معنى ومبنى. وما مقولة الفنّ للفنّ سوى مقولة هارب من ساحة المعركة. متغطّي برداء برجوازي. نسجه الخوف من قمع السلطة من جهة والاسترزاق من فتات القصور من جهة أخرى. وكان الشاعر قد التزم وألزم قلمه على الانتماء للشعب حتى في انتقاء العبارة واللفظ الذي يصل بسهولة وسلاسة إلى روح الناس البسطاء.بدون تعقيدات لغوية وبلاغيّة ومحاسن لفظيّة تركها إلى حينها وسنورد هذا التحوّل في الشكل والبنية لاحقا وفي حينه.فهو وبحكم انتمائه للشعب المفقّر والمجوّع.
يلتحم معهم في *(تقديمات للعبارة الشعريّة): حيث يقول:
أحبها بسيطة كمنازل الطوب..
كلباس ريفيّ من الجنوب..
كحديث عامل من بلادي
كفطور الخمّاس في فصل الحصاد..
أحبها شقية كصندوق شيات..
كبرويطة حمّال.. كحديث بلا بروتوكول..
وبلا مقدمات.../...
***
لكنّ شاعرنا بمعيّة رفاق دربه كوّنوا سلطة معنويّة لمن يدعوهم "بورقيبة (بالأفاقين)" القادمين من ريفهم بغبار هذا الريف ناشدين موقعا في المشهد الوطني. وهنا نورد إجابة الشاعر الصريحة متغنّيا بخصال منبته الريفيّ الذي أنشأه كغيره من الريفيين بلا زيف أو أقنعة المدينة التي اكتشفوا أمراضها تلك زمن قدومهم طالبين العلم من مناراتها التي تعجّ بالريفيين.
* وبسخرية مبطنة واعتزاز واضح يقول:في قصيد(ريفي)
ريفي.
كأن تقول "جبري" غريب عن الحضارة
ومن الحفاة العراة المعفسين على الحجارة
ريفي.. كأن تقول "غبيّ" في مسرحيات الإذاعة
يهدي الدجاج والبيض...
في سنوات المجاعة.........
...ريفي..
كأن يقول للدجاج..
دجاجة
ويعطش... ويعرى...
ولا تحنيه الحاجة...
وهنا أجدني مجبرا على أن أمرّ من ثنايا النخل والتين والزيتون. ومسارب الواحة... وملح البحر.. حرارة ماء العين.. في (زارات) جنّة الشاعر.. وملهمته الأولى.. ومن رزقته الخمسة والعشرين ربيعا من الحبّ المحزون... والشدو الحنون.. وروح الجنون... التي زاوجته ونصرة شعبه المفقّر... ليدفعهم في فخر وانتشاء وهو صارخا:
*ـ ارتفعي يا أيدي...
يا أيدي ارتفعي شددي القبضات...
أصافحكم...
أصافحكم...
يا حاملين في قبضاتكم هدير البحر الآتي
أولئك المهرجون يلبسون أقنعة الكهان وكراسيهم ديكور المسرح
وهذا شعبي في القاعة..
ارتفعي يا أيدي..
يا أيدي ارتفعي..
وارسمي العلامات الممنوعة
أصافحكم.. أصافحكم
ولن أصافح بعد اليوم إلاّ الأيدي المرفوعة
هذا شعبي يحيا.. وشعبي زغاريد
هذا شعبي يحيا.. وشعبي أناشيد
هذا شعبي في القاعة.. والقاعة عيد... /...
وفي هذه المرحلة من الكتابة لدى المختار تظهر جليا روح الساخر من واقعه لكن بمرارة واقع ينحدر نحو الحضيض ليهان فيه الإنسان إلى درجة تصبح فيه الحياة مهزلة فيستخدم المشاهد الواقعية بمفردات ساخرة ومثيرة مثل قوله في قصيدته "من يوميات "بزناس".
* السبت – الأحد – الإثنين
بقرة هولنديّة...
ربطتني بعلاقة 'أخويّة'
في اليوم الأول: قدّمت لي زوجها
في اليوم الثاني: قدّمت لي حبيبها...
في اليوم الثالث: أرضعتني حليبها...
***
*وأمّا من خلال قريته الصغيرة على أيّام الشاعر. وأهلها من البساطة والأريحيّة وصدق المشاعر. بحيث لازالوا في إكرام الغريب والإحاطة بالحبيب على قلّة المورد وقسوة الطبيعة التي زادت في شحه الرزق. فكانت قريته النموذج للأمّ و الملهمة والمعبودة رمز وروح المكان وآيات الزمان. ريح للحياة التي تقذفه إلى عوالم الحبّ. التي ترحل به إلى حبّ محزون ارتكب من خلال أحزانه أجمل الآثام (الشعر).
وللشعر في حياته مرحلتان رئيسيّتين ـ مرحلة القلب العاشق للحياة. الرافض لطقوس القديم البالي. الباحث عنها في جمال الصبايا وروعة الغزل ـ ومرحلة ثانية في محطتين كانتا عنوان الشاعر في دفتر تاريخ الشعراء ـ مرحلة العقل الثائر الذي يراكم فكرا ورؤية. بأسس القلب الريفيّ بفطرته وسليقته. وحبّه الصاخب الغاضب أبدا.للناس الكادحين . والفقراء المحرومين المظلومين. ومرحلتي بنائه الشعريّ يشتركان في الرفض والثورة كعنصر أساس في وجدانه وما الاختلاف سوى بين منطق القلب ومتن العقل وهما مفصولتان بالرحلة فالمرحلة الأولى كانت في أرض معركته الأولى المنبت. أمّا المرحلة الثانية فكانت صدمة واقع تلك العاصمة التي كان في تصوره "كعامة ساكني الريف والمدن البعيدة" جنّة الحضارة ومعلم التحرر والإعتاق من التخلّف. لكن كانت صدمته كبيرة حين رأى أن ما في الريف من رزق على قلّته وطمأنينة وراحة روح وبال. لا توجد في عاصمة الجوع والفقر حتى أنّه اعترف لحلمه أنه حلم (خلواض)
* في قصيد *(حلم رجل "خلواض")..
حلمت الملاّسين في الفجر..
تهاجم باب البحر...
كالريح في هبوطها.. تملّس بطوبها وتضربه بالمطر
وتصعد القربيات إلى أفريكا....
وتسقط لباس المغازات....
في يد الخردة والروبافيكا...
ـ حلمت: العاصمة وكانت نائمة.. وحالمة
تزخر بالناس والدخان..
رأيت بعض الحيطان
في شارع الحرية تبدّل لغتها الرسميّة...
وبعض الأوثان...
في شارع روما تسقط مكتومة...
ـ حلمت حلمت...
حكيت حلمي للجيران قالوا..
يا فلان "حلمك حلم رجل خلواض
وفي الحكمة قانون
يفرض عليه الإجهاض"...
* ويحمله العقل إلى تأبّط الفكرة. باقتناص ذاكرة المتلقي ومرجعياته الشرعيّة إلى محاورة الرمز. والتلاعب بصوره المحفورة في روح الناس. كاستخدام الرمز القرآني بقداسته التي في عصره يعتبر استخدامها في غير التلاوة تدنيس وكفر وزندقة.
* حين يقول: * (أفعال بين فاعل ومفعول)
"هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟...
الذين يعشقون ويغضبون ويقولون...
والذين هم سكوت..
الذين يأكلون الدنيا وتسحرون بالآخرة...
والذين يأكلون الموت..
وينتظرون القوت...
وخلاصة الدنيا إذا وصفناها...
الذين يحكمون فهم "حاكمون"...
والذين محكومون فهم محكوم عليهم.../...
* وكان محرّضا لاذعا وساخر في بعض الأحيان حدّ البكاء من واقع يسير نحو مجهول تأكّد فيما تلاه من أحداث تاريخ البلاد وتطورات مساره بلوغا حدّ انتفاضة (17ديسمبر/14 جانفي) صحّة رؤيته وتوجهه وانتمائه للقاعدة الأصليّة للشاعر والمبدع عموما أي الشعب المحكوم.ولم يساوم أو يهادن ويخدم بلاط الحكّام ولو لبعض غفلة زمنيّة. ففي قصيدة. جعلت فرقة موسيقى ملتزمة في أربعينية وفات شاعرنا من عنوانها اسما لها (الحمائم البيض). وهي * (أحزان الحمائم البيض) يقول محرّضا:
لا تستلقي.. تململ في البيضة...
حطّم القشرة..
أزح عن صدرك هذي الصخرة
وصفّق بجناحيك في الهواء الطلق.../...
* ولم يكن يحصر همومه في بعدها الوطني فقط. وإنما أيضا التزم بالبعد الإنساني وتمازج مع هموم الثوريين في العالم خصوصا منهم من كان سندا لقضايا العرب والمتطوعين بدمهم وحياتهم لنصرتهم. أمثال قائد عمليّة مطار اللدّ: الرفيق أوكاموتو. الذي خصّه ب: *
***
(رسالة حبّ إلى أوكاموتو) يقول فيها.
ـ أوكاموتو... أحبك يا أخي الإنسان
ولست أخي في الدين...
ولست بقارئ القرآن...
ولست من "خير أمّة قد أخرجت للناس"
فحين حبول البركان...
تذوب جميع الأجناس...
وتسقط كلّ الأديان
سقطت كلّ التيجان
مات أبطال ألروم وموات أبطال اليونان
ومات عنترة وعلي بن السلطان
مات جميع ألأبطال ومازال الإنسان.../...
وبخلاف عن الصوت الثوري الأممي في معاني القصيدة فإنّ المدقق سيجد أنه طرح في قصيدته عنصرا من عناصر التأسيس للقصيدة الطليعية في عصره وهي قتل الأب بصيغة (البطل) في القصيدة فكل الأبطال ماتوا ويبق فقط الإنسان. وهذه الرؤيا تتجسّد لدى الشاعر كموقف مبدئي في قصائد عدّة.
*لكن حدث طارئ على الشاعر في جزء أخير من مرحلة العاصمة (أي المرحلة الثانية والأخيرة من حياته) حيث برز تطور في الشكل والأفق لقصيده وكان إيذانا بميلاد جديد لم يسعفه الزمن ليتمّه ويخلّد منه سوى نزر قليل من التجارب الشعريّة. ودفتر صغير لكن على صغره نستشفّ منه محاورة جميلة للشعر العربي الملتزم عموما. ذلك النهج الشعريّ الثوريّ الذي حمل بصمة رواد القصيدة الحديثة المنمقة والمزينة بسحر الحياة العربية البسيطة والريفية أيضا. من أمثال محمود درويش ومظفّر النواب والبياتي وانس الحاج والخال ورواد قصيد لبنان الجديد. فكان المختار مزيج سحريّ لم ينفصل فيه عن وطنه وبلاده بل كرّسه للغرض ذاته. لكن بوعاء جديد. سيبرز بعده وحتى يومنا هذا على أنه الشكل الأرقى للشعر العربي الحديث.
رغم الاصطفاف الفكري الإيديولوجي المؤثّر بشكل جليّ على مجمل أشعار المختار إلاّ أنها لم تخرج عن النسق الطبيعي والإطار المنظّم للقصيد الطليعي بل كان متشبثا بشكل صارم في تبويبه وترتيبه شكلا لقصيدته ومضمونا. والتزم إلى حدّ بعيد بمنحاها وأفكارها ودافع عنها بشراسة كبيرة ومن بين المعارك التي خاضها كغيره من المنتمين إلى الطليعة الأدبية ضدّ من كان ينتصر للقصيد الكلاسيكي بلغته التقليدية القرآنية وقواعدها وبلاغتها الكلاسيكية وبعمود الشعر كمقياس للشعر والشاعرية وللشاعر. كان أن اتهم الكلاسيكيون الطليعيين بعدم القدرة على كتابة عمود الشعر لذلك ذهبوا هذا المذهب المحدث من عجز لا من تفكير وتبصّر ورأي وفكرة. فانبرى عدد من هؤلاء الشباب الطلابي الطليعي وشحذوا أقلامهم وكتبوا القصيد
*(...)* لكن بإضافة نوعيّة وهي تحديث المضمون وعصرنته (أي صبغوه بصبغة مواضيع عصرهم وهمومهم
التي طرحوها في صلب مشروعهم الطليعي) وهو ما فعل المختار ذاته مثلا في قصيده يقول فيه: "ذكرى
الصيف"
خليلي عند مجيء الشتاء * بليل طويل ويوم قصير
وحزن وهمّ وبرد وغيم * وبرق ورعد به والمطر
وكسر غصون وشجو طيور * وتجميد نهر ويبس زهر
فلا تشكوا لي صروف الزمان * ولا القلب يبكي ولا ينفطر
ولا النفس تلعن هذا الوجود * ولا الصوت يعلو بشتم القدر
*(...)*
وريفا هنالك يرنو إلينا * وبيتا عزيزا به ينتظر
هناك على المرج كم قد شدونا * وكم قد رقصنا بظل الشجر
وكم قد شربنا بينبوع ماء * وكم قد قطفنا لذيذ الثمر
وبين التلال وتحت الهضاب * نصيد الغزال ونقفوا الأثر
لنرجع دوما بخفي حنين * وما الصيد غير الهوى الخفر
وبحر جميل وأجمل منه * صبايا المروج، فهنّ الدرر
*(...)*
خليلي طاب بنا ذا التمني * ليوم الرجوع وهجر الحضر
وطال النشيد بطول التمني * فغابت رسوم وجاءت صور
كذا يا خليلي نذكر ليال * لننسى الليالي التي تستمر
ونذكر صيفا وحبّا وخيرا * لننسى شتاء وسخطا وشرّ.../...
(حي المنارة 1969)
***
*{المختار اللغماني والبداية من رحم النهاية}*
*أو ميلاد من رميم الموت*
وهنا أجدني منبهرا ومجذوبا لقصيده الرائع الذي حفر فينا مسافة بين درس شعري وآخر. بين نمط ومدرسة وأخرى نابعة من واقع المدرسة الأولى كفرع أصبح بمرور الزمن هو الأصل المعتمد. والمسمى في بعده الإنساني بالواقعيّة السحريّة.
* وأعني قصيد *(حفريات في جسد عربي) والذي يستهله بروحه الثائرة دوما قائلا:
لا تقتل حلمي...
باسم الله..
وباسم الدين..
وباسم القانون..
ولا تذبح قلمي....
كلماتك حمرا قال فما لون دمي ...
إنّي أشهد بحمام العالم...
بالزيتون المطعون...
بالبحر المسجون...
وبالدنيا..
وأنا أعرف ليس في الدنيا أحلى أو أغلى من هذي الدنيا...
أشهد أنّي عربيّ حتى آخر نبض في عرقي...
عربيّ صوتي...
عربيّ عشقي...
عربيّ ضحكي وبكائي..
عربيّ في رغباتي الممنوعة... في أهوائي...
عربيّ فيما أشعر...
عربيّ فيما أكتب..
لكنّ العالم أرحب...........
لكن العالم أرحب..
(...)
عربيّ من رأسي حتّى القدمين
حول الجبهة تمتدّ الصحراء تطلّ الشمس معاندة بين العينين
وعلى الصدر أثار سنابك خيل غزاة الليل
مرّوا في كلّ الأزمنة السوداء السيل وراء السيل
لكن ما ضاق الصدر ولا دهسوا أنفي
عربي أحمل قمحا وحماما وسلالا من أشعار الحبّ وبحرا في كفّي
عربيّ أحمل في جسدي جوع عصور أحمل عطش قرون
لكن يبقى حول الجبهة غصن الزيتون
وأنا أبقى عربيّا في ما أشعر
عربّيا في ما أكتب
وأعانق وجه العالم كلّ صباح يكبر حضني أكثر
فالعالم أرحب.. العالم أرحب.. العالم أرحب.../...
***

-الورقة الأخيرة-
- ورغم أنني لا يمكن أن يوقفني تصفحي لعالم المختار اللغماني عند هذا الحدّ لكن لضرورة الصمت في زمن يركبه منتحلي التقوّل فإنني سأصمت لأترك لمن يريد الغوص في هذا العالم الرائع لشاعر أعاد للزمن بريقه وهو يرقد في آخر لحظة من حياته على سرير النهاية التي ولدت شاعر الالتزام والثورة لسان الثوريين في الجامعة وفي نخب الشارع الفكري والثقافي والشعري.
* وهو يقول: * (التعبير عن الغربة) وهي آخر ما كتب.
عيناي بؤرتان منفيتان في المدينة المفنى
عيناي نائمتان على دائي.. معلقتان على أهوائي
مصلوبتان على سرير عمري المستشفى
عيناي الضيقتان.. واسعتان جوع
يا بستان.. ناشفتان عطش...
عيناي مسافران ضائعان يبحثان عن ينبوع
في زمان الضياع والغربة
متهافت.. متهافت أنا على المتعة.. وعلى المعاصي السبعة
وسائر في طريق مشبوه فيها.. وسالك سبلا صعبة
يا مستنقعات الأيام.. يا مزابل منتصف الليل... يا عمري
مالي ولهذا الزمان المجدب القفر.. مالي ولعصري؟؟؟
- وكان عصر يوم غائم حزين من مستهلّ شهر جانفي شهر كان ولا يزال شهر ميلاد الثورة في تونس وآخرها وليس آخرا... (14 جانفي 2010) الذي أقسم فيه الشاعر آخر أيمانه الغليظة... حين أقسم على انتصار الشمس. ونختم ببرقية شعريّة بديعة في شكلها وعناها المتناغمين والمتناسقين وأيضا في اختصارها وتكثيفها والمراوغة الجميلة في خاتمتها. والتي تحمل عنوانا: "الحديث عن فلسطين"
يتعمّق جرحك إثر كلّ هزيمة
يتكشّف عن سحر الأجداد... وشعر ألأسياد...
وإذا أنت... كما كنت... وليمة./.
***
*كان أوّل الواثبين في قافلة المودّعين (على اختلاف السبل في نهج الحياة الشعريّة والسياسيّة) ابن دمه وجدول
من جداول القبيلة: الشاعر العربي بإشعاعه أحمد اللغماني. حيث راسل روح المختار قائلا في وداع الأخ الأكبر ألحنون رغما كلّ الاختلافات الشعريّة والفكريّة *
(قصيدة: فظيع... أفول الأهلّة "إلى روح الشاعر الشاب المختار اللغماني
" جريدة "الصباح" الخميس 20/01/1977).
...فظيع أفول الأهلّة
... فظيع...
توارى الهلال ولم يتبرّج سوى بعض ليله..
على مطلع شفقيّ البساط
تنفست اللمحات المطلّة...
فكانت عبيرا مشعّ
وكانت ضياء يضوع
وكانت على الأفق شعلة.../...
***
- وعلى اثر رحيله وقد اعتبره مناضلي اليسار شهيد القصيدة –
* في مهرجان الشعر العربي وعلى ركح المسرح الأثري الروماني بقرطاج صائفة 1977 شهر أوت وبين قصائد كبار القصيد العربي المعاصر أمثال محمود درويش ونزار قباني وأدونيس وبين جمع من رواد القصيد المعاصر التونسي أمثال حبيب الزناد وسوف عبيد ويوسف رزوقة والطاهر الهمامي وفضيلة الشابي ومن أتينا على ذكرهم سابقا ضمن نوادي الشعر ومن لم نذكره لضيق المجال وكثرة الأسماء يصعد نجم المختار الساكن في قبره ليعيش عبر قصيده حفريات في جسد عربي لحظة الانتشاء وهي تتلى على الحاضرين. ***

*إليك رفيقي المختار*
لئن كان عمودكم من عبقر قدت مفاصله
من وهم ثقّف مغصوبا معصوب الصوت والفكرة
فلحرّيتي معاني جمّة أولها آخرها الحياة الحرّة
لا الغاوون تبّعي على ظلالة
ولا قطيع لي أهشّ عن بصيرته عتمة الحفرة
فالدنا رحبة القلب
كسفينة نوحيّة في بحر لاطم أدرك سفرتي
لي فيكم كلم باقي
ما بقي في الأرض حياة وهي روحي و درّتي
ربّها شراعها في حلّ وترحال
وشرعة دينها قدرتي
شربت الحياة من ثدي مكافح
من نخلة العشّاق
من خيام الفلاة قرّتي
من كؤوس الولعة سكرت
حتى ثملت عشقا بها
فغرستني في تراب الشعر بجذوتي
غسلت روحي بطهر منابعها
من رضاب ليلي وحبّي
وخمري
وجنوني
وعروبتي...
وشهوتي...
هي قلعة النار
تلهب كلّ من للحياة تجنّد
بصبابة
وشموخ
للكرّة
أهلوك سلّوا الروح من غمدها...
جمحوا
صهلت كما الجحيم خيولهم لاهثة
في رحب ترادفت وتكاتفت فتكاثفت
وتناخبوا كؤوس النصر الحلوة المرّة...
لا شيء يلجم روحهم
توّاقة للسماء هي
تبرق كشمس في ليل
يمسح عنّي في غربتي دمعتي
جذلى قلوبهم
حملت من الأيام
إلى الأيام لسانها شعرا ونثرة
نحو أفق الشمس مدّوا وجوههم
فلا غروب لشمسين على الزارات التي
عنوانها وروف هامتي
من اسمائها المختار حضرته هوّ
وهو أيضا رسمي
واسمي
وحضرتي.../...
الزارات صيف 2018
ألقيت في ملتقى ذكرى المختار اللغماني
تونس 02/08/2020
Comentarios