المختار اللغماني الشاعر الثائر “الذي أقسم على انتصار الشمس”
- zaratimoukhi
- 28 juil. 2020
- 25 min de lecture
* "أحبوا تونس... وهم المخلصون لها الذائدون عنها أن يكون لهم إزاء الأدب التونسي موقف آخر شبيه بالموقف السياسي (...) لماذا لا نخرج بالأدب التونسي إلى العالم كما خرجنا بالعبقرية السياسية التونسية...
" البشير بن سلامة 'دفاعا عن الأدب التونسي –الفكر- ماي 1967

المختار المختاري الزاراتي
'صيف 2020'

*الشاعر (الذي أقسم على انتصار الشمس)
* يقول المختار اللغماني في قصيدة {أقسمت على انتصار الشمس}:
الشمس الغاربة في الأفق * الغارق نصفها في الشمس
الشمس المصفرّة الشفق * الذابلة المثقلة بالنوم
الشمس الخجلى كالعادة تنحني للقهر * وتنهزم حتّى هذا اليوم
الشمس تعود لتنام على حقدها * مع انهمار الليل
الشمس تكرك على سرّ * وبيضها يفقس على الخيل
أقسمت بالبدلات الزرقاء * مسوّدة بالمازوط والصديد
أقسمت بالمطارق... تحت العضلات... تسوّي الحديد
أقسمت بالسنابل... أقسمت بالمناجل... سنة الصّابه
أقسمت بالخمّاس... يمنح الأرض شبابه
أقسمت بزيتون الساحل... بتمر الجريد
أقسمت بالشتاء في جندوبة... بالصيف في مدنين
أقسمت بالعمّال وبالفلاّحين... أقسمت بالجبل الأحمر والملاّسين...
هذه الشمس المصفرّة خجلا... يشرق وجهها ذات صباح بدم جديد
تملأنا أملا... وتملأ قلوب الأشقياء والعبيد.../...
مختار اللغماني

*الشاعر * أن "جوهر الشعر هو جوهر الإنسان أي التطور والتغير المستمر والتجاوز المستمر لحدود الكيان، لحدود المضمون والشكل" وأن "الشعر الأصيل رؤيا" كما أن الشاعر "الكائن العظيم الذي تتضاءل أمامه المدارس والإيديولوجيات... "وأنه ليس "مسجّلا" وإنما "زرّاع" فعليه أن يختار "البذور الحيّة". {محمد التونسي 'الفكر' 1968}

***
إنّ الأدب التونسي عموما والشعر تخصيص وإلى حدود نهاية السبعينات وعلى مدى عشريتين من الزمن. كان قاطرة مغاربية رياديّة قادت ثورة شعريّة حداثيّة طليعيّة إبداعيّة. بمعاول فكريّة وتجريبيّة نموذجيّة قادها فكر وطنيّ ثوريّ. أدار إليه رقاب وأنظار المشارقة في الوقت الذي كان في تصورهم النرجسيّ أنهم المركز وأن الأطراف ليسوا سوى نقليون ونسخ في أفضل حالاتها مكررة تشوّه رغبات وأفكار المركز.
لكن غاب عنهم أن الريادة من قدم لها عناوين أهمها ما استمدت عناصر من جملة عناصره من تونس. منذ كانت حركة نشر صحفيّة رائدة مع 'الجريدة الرسميّة' (الرائد الرسمي) الذي كان ينشر مع القرارات الرسميّة الإنتاج الثقافي والإبداعي الشعري. في 1860 ومن بعده صحف كثيرة كانت تنشر وتتواصل مع ما يطبع في مصر ولبنان ومن ذلك حركة الريادة التي من جملة المؤثرات التي قادت لبروز الحراك الشعري الثوري المعاصر والتي انطلقت مع نشر من محاضرة أبو القاسم الشابي 'الخيال الشعري عند العرب' وفي إحدى عناصر التجديد والتحديث ما عبر عنه الشابي في قوله: - عن وظيفة الأدب ومعاصرته قوله التالي:
"لقد أصبحنا نتطلّب أدبا قويّا عميقا يوافق مشاربنا ويناسب أذواقنا في حياتنا الحاضرة. بما فيها من شوق وأمل. وهذا ما لا نجده في الأدب العربي لأنه لم يخلق لنا نحن أبناء هذه القرون وإنما خلق لقلوب أخرستها سكينة الموت"
إن هذه الثورة الشابية الشعرية التي ترجمها بشعره حيث رغم بقائه حبيس الأوزان الخليلية الشعريّة إلاّ أنه دفع بها إلى ضفّة نوعيّة وسابقة شابية بحتة. حيث قيل عن تجديده وإبداعه الخاص المتميز صلب العمود الشعري: "أحسن قصائده وأقواها شحنة شعريّة وأكثرها انسجاما مع آرائه ومذهبه في الشّعر هي التي لم يلتزم فيها قافية واحدة".
إن الأطروحات ومنها أطروحة الشابي أثرت كثيرا على الساحة الشعرية العربية خصوصا بعد سلسلة الهزائم العربية الكبرى وصعود نجم الشباب الثائر على حكامه والمستعمر معا. في حركة تحرر وصحوة شاملة مواكبة لحركات التحرر الإنسانيّة العالمية. وتردد صداها في كلّ الساحات ومنها تونس لكن الذي تميزت به الساحة التونسيّة هي الإضافات النوعيّة ليس على المستوى ألتنظيري وحسب وإنما التجريبي الكمّي والكيفي.
ففي رصد لتطورات النظرية (وأقول الفكريّة البحثيّة لأكون أكثر دقّة وأمانة من مصطلح نظريّة) الشيء الذي جعلها قاطرة التحديث والتجديد في المغرب العربي وأولها الساحة المغربيّة أين نجد هذا الصدى بشكله الواضح عند أحد أبرز وأهم الأسماء الرموز للأدب وللشعر المغربي الراعي لطليعة المغرب التي كانت تصدر "أنفاس" وتربطها صلات تعاون وتفاعل بنظيرتها التونسيّة. والتي كتب عن التجربة التونسيّة الشاعر المجدد والناقد والباحث المغربي محمد بنّيس في دراسة قدمها بندوة طنجة ماي 1994. تحدث عن التجربة التونسية الرائدة قائلا:
"وفي ضوء الوعي المتكامل بمسألة الشخصيّة القوميّة (التونسيّة) وفعل العاميّة في العربيّة الفصحى (...) فإنّ حركة غير العمودي والحرّ وفاء لصرخة الشابي وصحوته الفكريّة لبناء الذات، وبالتالي فإنّ هذه الحركة ترفض مبدأ الشعر الحر القائم على وحدة التفعيلة، فيما هي ترفض ما دعت إليه جماعة شعر من موسيقى الأفكار، موضّحة أنّ حيويّة الإيقاع صادرة عن التلاعب بالقوافي لا الأوزان (...)"
. والتي جرّب فيها المختار اللغماني كغيره من الباحثين عن شخصيته الشعريّة التونسية في وطنه على مدى الأزمنة والعصور. وعلى الشاكلة والرؤيا الشابيّة التي لم يلتزم فيها قافية واحدة
ولنا في قصيدته "طائر البحر":
طائر البحر يفني العمر
يقطع الجوّ. البحر
طائر البحر طويل العنق
طائر البحر يتغذّى بالقلق
طائر البحر بلا محطات
طائر البحر ذاهب آت
طائر البحر طويل المنقار
طائر البحر.. ماذا يختار؟
طائر البحر يرقص. يحوم
طائر البحر يشقّ الغيم
طائر البحر طويل الجناح
طائر البحر.. لا يرتاح
طائر البحر يتعب يوم
يرسي على برّ النّوم
يغريه وعد احمرار الشفق
وازرقاق البحر في الأفق
طائر البحر طويل الساق
طائر البحر.. وينساق
طائر البحر والعواصف الهوج
طائر البحر وغليان الموج
طائر البحر مغامر يدخل..
طائر البحر.. ويتقن الخروج
***
*فمن يكون الشاعر المختار اللغماني؟
*الذي كتبت عنه جريدة الصدى التونسية بتاريخ 17/01/1977 في ركن 'أبيض':
*(كان مختار كأغلب الشعراء يتألم، ويحيا بالحزن المستمر القاتل، ويعيش وبين جنباته مأساة تلخص ضياع جيله وغربته الفكرية والاجتماعية، ولم يتحمل طويلا ذلك الحزن القاتل (...) فمات في بداية المحنة.. مات وعلى شفاهه ألف قصيدة على وشك الولادة.. مات قبل أن يقول كلّ ما عنده من شعر لا يلتزم إلا بالإنسان...)

***
'تصدير'
***
1 * " إنّ الإبداع الأدبي نوع راق من أنواع العمل الاجتماعي ومادة البناء في الأثر الأدبي هي 'الكلمة'، أي الشكل المتميّز للوعي. وسرعان ما يواجهنا التناقض التالي: ففي الإبداع 'الكلامي' ثمة عمل يقوم به الإنسان انطلاقا من مخطط أي من فعل الوعي الذي هو النشاط المادي للوعي وهذا العمل يلجأ من جديد إلى التعامل مع الوعي "الكلمة" ومن هذه النقطة تنبع جذور التناقض المميز للأدب..." غيورغي غاتشيف "الوعي والفن"

*(كتب صديقه ورفيق دربه الناقد المشهور بجديته وصرامته وسخريته اللاذعة. أحمد حاذق العرف. فكتب في مقال تأبينيّ (بجريدة "الصباح" 1977)
*(...كان أحد الشموع التي خسرها الشعر التونسي الجديد.المليء بالوعود والعطاءات.كان أحد الشموع التي فقدتها الطليعة الأدبيّة ببلادنا وهي تدخل منعرجها الجديد...كان أحد الشموع التي خسرتها الثقافة الوطنيّة المطلّة من وراء الأفق والتي نسعى جميعا إلى توفير مناخها...)
ولم يكن كلام الناقد مجازفة أو تجديف... بل من نظرة عارف بالدورين اللذين كان المختار يقوم بهما على المستويين الإبداعي الشعري والتأسيسي الباني لفضاء الشمس المنتصرة.. من خلال مساهمته في تأسيس النوادي الأدبية والثقافية والشعريّة.. مع حضوره التوعوي كمساهم فيما يجب أن تكون عليه التحولات الشعريّة. (حسب رؤيته النابعة من تحليله الذي انتج لديه خطا شعريا مشتركا مع جماعة مشابهة له وفي ذلك انتصار لثقافته المكتسبة في زمنه ومعايشته لتنظير الأفكار التي تهم الشعر خصوصا كأداة تعبيريّة حقيقية وجب أن تكون شعبيّة فهي بذلك تكون في مكانها الطبيعي لأن الشعر بالنسبة له ولجماعته شعبيا وليس صوت البلاط أو لا يكون) - وبرؤية حداثية تحريريّة للشعر ودوره فحال الشعر والشعراء كما رآها ووصفها في قوله:
قصيدة*(الشعراء):
ـ خززت أفكارنا...ركدت
أضحت مستنقعات...عشش فيها البعوض...
باض في القذرات.../...
- ويواصل فاتحا أفق البناء لقصيده وهو يخاطب روحه الفاعلة قائلا:
*(سأعرف كيف أبني أفكاري...
أبنيها... أنا الباني...
أعجنها بأحزاني.../...)
- وهنا ومن المنطلق والبداية وجب أن أنبّه إلى أنّي لا أدّعي عظمة وهميّة للشاعر. ولا أأسطره بقدر ما أتوخّى موضوعيّة ألمستقرأ لكنه كان وما يزال أحد أهمّ النماذج الأصيلة والمتأصلة في المشهد الشعريّ في تونس في زمنه وعلى أيامه لذلك كان وسيظلّ أحد العناصر التي لابدّ من الوقوف عندها بالدرس والتحليل والاستبطان لواقع وتاريخ تطور القصيدة في تونس. المواكب لتطور الحاصلة في الميدان الثقافي كما والاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مرحلة من أهم مراحل الأزمات التي مرت بها بلادنا نتيجة تبعيتها للخارج وأخطاء مقرونة مع تخلف في الانتاج المحلّي.
ومن خلاله كما من خلال غيره من الأسماء الرواد للمرحلة الستينيّة والسبعينية للشعر التونسي نكتشف جملة الخيارات والمواقف والأفكار والرؤى السائدة والتي ساهمت جديا في بناء قصيدتنا اليوم. بما لها من أهمّية بحثية وحفرية طبعت مسيرة الشعر الذي وصل الينا عبر الأحياء منهم والموروث عن الأموات اللذين من بينهم المختار اللغماني. من خلال نموذجه الذي كان ومازال عند الكثيرين ذاكرة وذكرى وشهادة على مشهد شعريّ حقيقي. لتونس السبعينات بحراكها الثقافي والفكري وكلّ المؤثرات فيه وعلى رأسها العامل السياسيّ الذي كان سندا لكلّ مبدعي وفناني تلك المرحلة بالفكرة والنظرة ورسم الطريق. وهنا أجدني أتفق مع كلام الدكتور الذي رافق ولازم كنوز شعلة الأدب السبعيني وعلى رأسهم شاعرنا المختار (و حركة الطليعة الأدبية في تونس) في قوله عند تأبين الشاعر في جلسة بنادي الشعر بدار الثقافة إبن خلدون. الذي كان الشاعر من بين مؤسسيه صحبة كلّ من المتكلّم ذاته الدكتور هشام بوقمرة. *( والشاعر عبد الحميد خريف والأديب محي الدين خريف والشاعرة فاطمة الدريدي والشاعر نورالدين صمود والأديب محمد أحمد القابسي والميداني بن صالح والأديب مضطفى الزمزاري وحسين العوري والأديبة نجوى الكافي وعلي دب وغيرهم كثر...) وذلك خلال سنة 1976.
*ـ حيث قال: (...لم يكن صوتا فريدا ولكنّه كان صوتا داخل رافد أصيل ساهم في حركة شعريّة إبداعيّة في صدق وإخلاص...)
وهو الذي حدد دوره الشعريّ بقوله * (عن الشعر):
الشعر لا يبيعه البائع
ولا يشتريه زبون
مطعون أنا............ مطعون
ككلّ جياع الأرض
محتاج إلى الصياح
محتاج إلى الرفض
محتاج إلى حمل السلاح.................
إلى استعمال اللفظ.../...
***
*كتب المقالة النقديّة النظرية والنقديّة. ومن مقالاته النظريّة (حول رأي الزناد في الشكل التحرّري الشعري) العمل الثقافي 1970ومقالته (بين الشعر والنثر) بصحيفة العمل الثقافي 1970. *والمقالة النقديّة كمقالته (ماذا حقق المجزوم بلم؟) وجزء منه ثان مع عنوان فرعي (المضمون)بعد تقريبا شهر عن السابق بنفس الجريدة العمل الثقافي 1970. *كما كتب القصيدة المشابهة للبيان الشعري التنظيري حيث استخدم الفكرة بأدوات الشعر وعبر بها عن عناصر أساسية للقصيدة التي تبناها كقصيدة حبّ الكلمة الشعر والحياة ألام شاعر الشعراء وعن الشعر وتقديمات للعبارة الشعرية وقصيد عبارتي شعبية إلى آخره من محاولاته تقديم أفكاره في ثوبها الأصلي ومحورها الأساسي الشعر والقصيدة.





* ولد المختار بقرية الزارات من مدينة قابس سنة 1952 وتلقى تعليمه الابتدائي بها بين سنتي (1958 و 1964) ليلتحق بالمعهد الثانوي بقابس المدينة ومنه تحصل على شهادة ختم الدروس الثانوية (بكالوريا آداب) سنة 1970 ليلتحق بمقاعد كلية الآداب بالعاصمة والتي يتخرّج منها متحصلا على الأستاذية في اللغة والآداب العربية سنة 1976. التحق بأسرة التدريس أستاذا للعربية بمعهد تستور لكنّ الموت اختطفته ولم يمكث على مقعد التدريس سوى شهرين قمريين.
* إذن عاش المختار 25 سنة تقريبا عاصر خلالها أهمّ التحوّلات والانكسارات والهزائم والخيانات وأيضا أهمّ التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي أسست لحاضرنا اليوم. ومنها كان مستنده البحثي الفكري والشعري في آن. الذي جمّع بعد موته ببعض أسابيع قليلة وسلمت للدار التونسية للنشر والتوزيع STD ضنّا أنها ستكون أعمالا شعريّة كاملة إلا أنّ إدارة الدار اكتفت بنشر 33 قصيدة جاءت في 114 صفحة من الحجم المتوسّط. وتركت أغلب أشعاره على رفّ معدّ لإهمال ما يمسّ من النظام على أهميته الشعريّة والثقافيّة التاريخيّة. ولهذا كان اعتمادنا في هذا البحث المختصر. على المنشور من أعماله وأشعاره المنشورة أو التي توصلنا للاطلاع عليها وهي قليلة نادرة جدا. كما قامت جمعيّة البديل الثقافي بمارث بطبع مجموعة من قصائده في عدد خاص من مجلتها "البديل الثقافي" حمل عنوانا "حفريات في جسد عربي" (العدد 5 لسنة 4 ماي 2014) وجمعت فيه نحو 97 قصيدة في 142 صفحة. وفي حجم متوسط. أغلبها لم يقع نشره بالمجموعة المذكورة المنشورة سابقا وأهميتها تكمن في أنها نشرت عديد القصائد التي نشرها الشاعر في بداياته في صحف تونسية كالصباح والملحق الثقافي لجريدة العمل ومجلة الفكر وبثت في حصة هواة الأدب الإذاعية.ومن خلال اطلاعنا يمكن لنا تقسيم مسار القصيدة المختارية إلى ثلاث مراحل مهمة تعتبر محاور أساسيّة لتعرية وكشف مراحل تطوّر القصيدة عند الشاعر التونسي عموما في تلك المرحلة.
* نرتبها في عناوين تالية:
-1- البدايات
-2- مرحلة البحث عن الذات الشعريّة
-3- الانتماء والانتصار لتوجه ووجهة شعريّة محددة وواضحة. وهي مرحلة يتلازم فيها الانضباط للقصيد الطليعي وللالتزام بمقاييسه النضالية الثورية معنى ومبنى. وبذلك يكون الشاعر المختار حالة نوعية لدراسة هذا التلازم والالتزام الشعري والفكري الذاهبان في شكل متوازي جنبا لجنب.
***
* كتب الشاعر في شبه مذكرات شاعر حول كتابته للشعر قائلا ومقسما مراحل تطور قصيدته وفي مرحلة كان يخوض فيها مرحلته الثالثة الأخيرة:
* {هذه هي المرحلة الثالثة منذ تفجّر شيء في داخلي (...) كانت المرحلة الأولى مرحلة المراهق المثالي الحالم المحبّ انتهت بالصدمة. وكانت المرحلة الثانية مرحلة الإنسان المحطّم الفاشل في أحلامه ومثاليته، يقوده يأسه إلى الليل والأحزان والضياع. وتطلّ المرحلة الثالثة وفي قلب هذا الإنسان البسيط الغريب بقايا جنين إلى مرحلة الأولى وبقايا آثار من المرحلة الثانية وتطلع إلى مرحلة ثالثة أفضل... فما الذي يخفي له الغد؟ إنّ ما سيحدث سيكون كالعادة مسجّلا بهذا القلم الباحث عن كتابة الشعر.}

*{المختار اللغماني شاعر ولدته الزارات لينتهي رقما رمز في شوارع العاصمة}
*والمختار كان وسيظلّ أحد مفاتيح الكلمة التونسية الصادقة الحقيقية المعبّرة والفاعلة.
***
* رغم شحّ المصادر التي تخصّ هذه المرحلة { بداياته في سنيّ عمره المبكّرة} من ولادة شاعر نحت اسمه عنوانا للقصيدة التونسية الملتزمة. فإنّ المتوفّر لدينا يمكننا من تلمّس بعض تفاصيل البدايات التي اتسمت فيها هذه المرحلة لدى المختار اللغماني بارتباطه الرئيسي (كغيره من أبناء جيله وحتى من الأجيال السابقة واللاحقة) بعمود الشعر وعروضه.
وهذا ما يعطينا فكرة عن المنطلقات المرتبطة بمقاعد التعلّم والدراسة في مرحلتها الأولى (التي نسميها اليوم مرحلة الإعدادي) حيث يدرّس علم العروض ونماذج الشعر العربي الرئيسة. والتي منها انطلق أغلب الشعراء في تلمس طريق الشعر الكامنة فيهم وأغلب الظنّ أنّ المختار من هنا سلك الطريق. الذي ارتبط أيضا لديه واتسما بالاختصار والتكثيف على شاكلة القصيد البرقي أو حتى ما يسمى اليوم بقصيدة الومضة. حتى بلغ كتابة القصيد المتكامل الأطول. والذي ارتبطت مواضيعها بالحبّ في أغلبها. ولكنها جاءت مجددة ومحدثة في حالاتها ووضعياتها التي كتبها الشاعر فهي ليست بالغزلية المتعارف عليها ولا حتى الهجائية التقليدية وإنما حملت نمطا مغايرا فيه الكثير من واقعية أحاسيس زمانه وتفاعلاتها الاجتماعيّة.
* وهنا نورد هذه المعزوفات التي نكتشف من خلالها تطوّر الشاعر أيضا ورحلته من العمودي إلى التفعيلة. ففي العمودي قال: في قصيدة 'الهويّة'
أحب الخيال لأنّ الجمال * يشدّهه الواقع المؤلم
وأهوى السخافات والغفوات * لأنسى الشقا عندما أحلم
ودنياي همّ وحزن وغمّ * فكيف أعاني ولا أسأم؟
- أيضا نلاحظ ذلك في قصيدته 'إلى ثقيل'
من هواك يا فلان بي بريح * ربّما يسحرني الشيء القبيح
هزني صوت الملاك صوتك * فيه عزف للأفاعي وفحيح
آه لو تريحني يوما بهجر * إن هجر الهمّ يا همّ مريح
وأواصل في إبراز تطوّر سيتكاثف تدريجيا مع تطوّر العامل الفكري والثقافي لدى الشاعر بتطوّر تفاعله مع الساحة وطنيا وعربيا وعالميا من خلال الاطلاع المعرفي والمماحكة. فمن الواضح من
خلال منشورات الشاعر أنه ومنذ بداياته كان مواكبا ومطلعا على ما يجري في ساحات الشعر
والفكر خصوصا عند بلوغه المراحل النهائيّة من دراسته الثانويّة.
إذ أنّ الشاعر ومنذ هذه المرحلة كان يراسل ويرسل أشعاره التي ينتقيها إلى جريدة العمل والصباح وبالأخص إلى الحصة الإذاعية المشهورة في حينها والتي تعتبر المنبر الذي أذاع واكتشف جيلا برمته من الشعراء والأدباء في تونس ونعني بها حصّة { هواة الأدب }.
* ففي ومضة شعريّة ساخرة بمرارة المحبّ المهزوم مرحليا يقول:
صديقتي
لي أمل أخير
من حبّي الأكبر من كبير أن أصفعك...
* وفي أخرى وكان يدرس ساعة اللغة الانجليزية في تاريخ 24/02/1971 قال:
آلامي أحياها وحدي
وأعيش آلام الناس
يا قلبي يا وتر ورديّ .. كم يفعل فيك الإحساس
* ومن خلال هذه الأخيرة نكتشف عمق إحساس الشاعر بكلّ تفاصيل الحياة من حوله وانتصاره للناس تاركا مهمة ذاته للحظات الوحدة والانكماش. وتطوره الفكري البحثيّ عن ذاته في هذا العالم المتحرّك إلى ظلمة كالحة. ولكن الذي شدّ انتباهنا وهو إيذان صريح بالتبادلات في الاختيارات المذهبية الشعريّة التي قطعت مع العتيق الموروث العمودي ويعرّي جانبا ثانيا من اهتمام الشاعر بما يدور حول القصيدة الوطنيّة وبحثه عن وعاء يضمن له صدقيه الإحساس والمعنى والتعبير الشعري الثوري المواكب والمعاصر. فنجده وهو بعد على مقاعد الدراسة الثانوية بمدينة قابس قد تبنى تجربة جديدة وهي تجربة الشعر الحرّ ذي المقاييس التالية:
* في استمراريته لهيمنة العروض الشعري الذي استعاض كتاب الشعر الحرّ عن ال16 بحرا ب 8 تفعيلات فقط وهي تفعيلات البحور الصافية دون غيرها والقصيد العمودي المعتاد يتشكل من أبيات شعرية البيت يتكئ على مصراعين (الصدر والعجز) أما قصيد الشعر الحرّ فإنه يتشكّل من سطور شعريّة عوضا عن الأبيات وعوضا عن المصراعين تكون
السطور الشعريّة تختلف عن بعضها في الطول وذلك حسب عدد التفعيلات في السطر ففي السطر الأول تكون تفعيلة،
وفي الثاني يمكن أن يكون عدد التفعيلات 2 – أو 3 – أو 4...إلخ.
ومن بين أبرز من كتب في هذا الاتجاه نجد (محمد العروسي المطوي ومحسن بن حميدة وعبد المجيد بن جدو ومصطفى الحبيب بحري وجعفر ماجد ونور الدين صمود والميداني بن صالح وغيرهم إلى حين غلبة الظهور لحركة الطليعة الأدبية على اثر الهزيمة العربية في حرب جوان 1967. التي انطلقت من موجة أولى هي حركة "في غير العمودي والحرّ" لتنتهي حركة أطلق عليها حركة الطليعة الأدبية.
وجسّد المختار في تجاربه الشعريّة وهو في مرحلة دراسته بقابس أي في آخر مرحلته الثانويّة حيث انتشرت الأفكار وتطارحت ونوقشت وبنا على ضوئها كلّ موقفا من الشعر والفكر معا إمّا في ظلّ نوادي الأدب أو في تجمعات متناثرة تحوم حول مجالس الشعر والأدب والفكر التقدمي الذي انتشر على أيامه.
***
* ومن هنا يمكن أن نتتبع سير الشاعر في منهاج كتاباته الشعريّة والتطور الأول الذي طرأ على قصيدته حيث منذ البدايات انجذب وتماهى مع قصيدة (في غير العمودي والحرّ) التي كتب عنها الشاعر التونسي والأديب سوف عبيد المجايل لجملة هذه الحركات التجديدية الثوريّة للشعر التونسي ولاعبا في تفاصيلها كشاعر رافق المختار لبعض زمانهما بالعاصمة. قائلا "تلك الموجة الشعريّة التي ظهرت خاصة بين 1968 و 1974 حيث مثلت شكلا جديدا في الكتابة الشعريّة أما الثلاثة فهم: الحبيب الزناد وفضيلة الشابي والطاهر الهمامي الذي أصدر بيانات عديدة في التنظير لذلك الشعر ثم يأتي بعدهم في الظهور والحضور الشعراء نورالدين عزيزة وأحمد الحباشة ومحمد أحمد القابسي والمختار اللغماني..." ونظم قصائد معنونة ب { في غير العمودي والحرّ } من بينها قصائد: صيحات و قصيدته 'وسط الظلمة' التي أيضا ذيلها ب "في غير
العمودي والحرّ" التي قال فيها:
النهار في قلبي مقتول
النهار عندي مجهول
وقلبي يا أمي مغلول.. في سلاسل الليالي الجهمة
قلبي في السجن غريب
وقلبي في الحبّ غريب.. وسط الظلمة
وأنا يا أم معلول.. أطلب الرحمة
أصيح وحدي وسط الزحمة
أخال الله غير قريب وسط الظلمة
*وحركة في غير العمودي والحرّ هي حركة انبثق عنها الطليعة الأدبية ومن أسسها:
* جهازها المفاهيمي المختصر في جملة ثنائيات هي.
1- ثنائيّة ال 'نحن' و ال 'هم' في مضمار تحديد الذات
2- ثنائيّة المضمون والشكل في مضمار تحديد الرؤية النقدية والإبداعيّة
***
* الشاعر الطلائعي "هو الذي يهجر العمود لأن الشعر الخليلي يحمل موسيقى فولكلورية وكذلك كلاسيكية... ولذا وجب خلق موسيقى شعريّة جديدة ليست بدائيّة وإنما قائمة على ارتجال النغمة"
{محمد بن صالح بن عمر}

وهذه الثورة الشعريّة التي انطلقت من صفحات مجلة الفكر من خلال تجربة قصيرة لغير العمودي والحرّ والتي أفضت إلى بروز حركة الطليعة الأدبيّة التي اختلفت مع ما جاءت به مجلة شعر العربية وحدد بن نيس معالمها كالتالي: " بكونها ترى إلى (1) عبقريّة اللغة العربيّة تكمن في نحوها لا في أوزانها (2) النظام الذي يقتضيه الشعر كامن في اللغة اليوميّة وكنه الشّعب ثمّ (3) القضايا الإنسانيّة الخالدة لا متاهات اللفظ والقوالب هي طريقة انطلاق الشعر." وتخللت مرحلة ما بين الحركتين (في غير العمودي والحرّ) و (الطليعة الأدبيّة).
* حركة قادها ومثلها الشاعر والأديب محمد المصمولي وهي "القصيدة المضادة تفجير دائم للقوالب". كما في مرحلة متقدمة سينسبها إلى قصيدة النثر ولكنها تونسية وليست شرقية أو غربية. من خلال هدم الهياكل الموروثة. ترفع الرفض تاجا. وتثور على نفسها باستمرار. وعرفها المصمولي بقوله "ليست فنا يحتاج إلى تسمية لأنها ليست شعرا "كلاسيكيا" أو حرا... بل تتخطى تلك الهندسة العروضيّة التي لا فضل لها الاّ في كونها من تراثنا" وعلاقتنا بها يقول المصمولي: "الإضافة والتحاور معه ومع تراث الحضارات ألأخرى وميزها عن النثر بقوله "خلافا للنثر والنثر الفني والنثر الشعري تمتاز بأوزان وقواف أخرى وآفاق وأوتار تنبع من طرافة الشاعر لا من ذاكرته." ومن مقولاته "الشعر هو الشاعر" والشعر" ثورة دائمة وتساؤل لا ينتهي" ولا تقاس شاعرية الشاعر بمدى "طاعته للماضي". بل بالقدرة على "تجديد الحياة وانتشالها من الهرم والجمود والتعفن والزيف". "إنها خلق من الألف إلى الياء بطاقة تعريفها صاحبها وجها لوجه مع العالم المعاصر"
محمد المصمولي الذي كتب عن الشاعر المختار مقالتين على الأقل إحداها عنونها ب "المختار اللغماني بين العبارة الشعبية والعبارة الشعريّة" منها نقتطف التالي:
*' بهذا الوعي جابه ابن الريف المختار اللغماني حالات إنسانية لا تتحدد بمكان معيّن. وانعكس ذلك على حسه ونبضه فأصبحت العبارة عنده ألما يسّاقط على الورق. ولأن الذي يحترق هو المختار فان الورق بقي وعاء يحفظ آلمه '*
ومن خلال هذا الوعي الذي تجذّر لدى الشاعر من خلال النهل المعرفي الفكري والأدبي عموما سواء من خلال مقاعد الدراسة أو اطلاعه الخاص تمكّن من تحديد خياراته الشعريّة بوضوح مثلما حدد مواقفه الفكريّة بوضوح أيضا فكانتا متشابكتان مترابطتان إلى حدّ بعيد والى درجة يصعب التفريق بينهما عند دارس أشعار المختار اللغماني فالارتباط عضويا لا انفصام يشوبه.
ومن هنا نفهم قصيدة الشاعر التي نتلو عليكم من بينها قصيدة "أتعاب ألليل" التي تذهب مذهب الشاعريّة رغم ما تحمله في طياتها من مضامين ثوريّة غير عارية ومكشوفة مباشرة. إذ يقول:
* المساء...
أنا يعشقني الأسى
يصلني بدون اختياري
يتبعني كظلّي... ويلبسني كساء
الليل...
الزمن الأول... أنا مشتري حبّ متجوّل
الزمن الثاني... أنا تقيدني أحزاني
يطلقني الكلام... ولكن يصعب انقياد لساني
الزمن الثالث... أنا باحث.. في الفضاء... وحارث... في الماء
منتصف الليل... أحسّ باتساع السماء... وبكبر ألأرض
أحسّ بتفاهتي وتطاولي... بانعدام طولي والعرض
الصباح... أنا طائر صغير سواح
تقاذفتني الرياح على الرياح
سقطت مهيض الجناح
أنا حلما كان مع الليل... ومع الليل راح
* ولئن كانت انطلاقة حركة الطليعة مرتبطة ببيانات تصدرها قصيد لمحمد الحبيب الزنّاد بعنوان "الشيّات" في شهر ديسمبر من العام 1967 أي بعد الهزيمة العربية الناصريّة بستة أشهر. إلا أنها كانت حركة ثقافية فنيّة وأدبية شبه عامة فهي طالت بخلاف عن الشعر القصة والمسرح والرسم والنقد واتخذت من الثورة على التقاليد والماضويّة شعارها الرئيسي. هذه الحركة التي احتضنها الملحق الثقافي لجريدة العمل ومجلة الفكر التونسية حتى اتخذ قرار إيقاف الملحق عن الصدور فتشتت جمع الحركة ورغم محاولتهم التموقع مرة أخرى في صحف مثل الأيام والمسيرة إلا أن ركودا وكسادا فرض على الساحة الثقافية عموما كان إيذانا بتحولات في نظرة السلطة لدور الثقافة والإبداع في ظلالها.
- من بيان حمل إمضاء طلبة يقودهم الطاهر الهمامي جاء فيه نقطف التالي:
"مادمنا في عهد التعاضد والاشتراكيّة الدستوريّة" نودي إلى ضرورة الاستغناء عن فكرة البطل وضرورة الانكباب على دراسة التغيير الذي طرأ "فالعوائد والتقاليد التي كانت سائدة وقت الاستعمار لا وجود لمعظمها اليوم... وأصبحنا لأول مرة... نرى الأب والأم والأبناء يتشاورون ويتناقشون" فمثلما" رفع الحجاب عن المرأة يرفع اليوم عن الأدب".
***
ـ ولنا أن نذكر صريح قوله في احدى مقالاته التي ينتصر فيها لخياره الشعري سنة 1977. (... إننا كنّا ومازلنا نؤمن بطليعة أدبيّة مبدأ وموقفا ولم نؤمن بها أشخاصا. وبعيدا عن كلّ الخلفيات والعلاقات وتأثيراتها...)
***
*إنّ هذه المرحلة التي جمعت في طياتها مرحلتين (بما أننا كنّا أشرنا إلى غياب المدونة الكاملة للشاعر لمعرفة كافة المراحل بالتدقيق لذا اقتصرنا على المنشور منها وما توصلنا للإطلاع عليه) وهما مرحلتي:
-1- البدايات
-2- مرحلة البحث عن الذات الشعريّة
مع العلم أنّ المرحلتين كانتا متلاصقتين ومتوازيتين في تسريع اختاره الشاعر في كلّ عنصر يحسم فيه الموقف. لكأنه كان على بينة من قصر السنين التي سيعيش فيها حلاوة الحلم والشعر. كما فرض عليه ما فرض على أبناء جيله نتيجة عوامل عامة جاورت العوامل الخاصة.. فما هي هذه العوامل المؤثّرة العامة والخاصة التي سبكت قصيد المختار وجهة وحاملا شعريا؟
1) في ملاحظة بسيطة للتواريخ من الميلاد إلى الوفاة نكتشف أنّ الشاعر عاش أهمّ التحولات الوطنيّة والعربية والإنسانية. فهو عاش فقر شعب يرزح تحت نظام اقتصادي هشّ مرتبط لا استقلال فيه مما تسبب في ارتباطه بالأزمات العالمية بشكل كلّي الشيء الذي أثر بشكل مباشر وصارخ على الشعب من فقر وأنتج حركة نزوح كبرى إلى تمييز بين الحضر والريفيين الذين أطلق عليهم بورقيبة (الآفاقيين النزوح) ومن تأثير الفقر أيضا تراجع نسب التعلم في صفوف الفقراء بينما يتطور الوضع في المقابل عند الميسورين. فكتب على عمال المناجم وعموم العمال بالساعد والفلاحين ومشردي العاصمة وكل تفاصيل بلاد تعيش أحدّ الأزمات وتفرقة الطبقية الشنيعة. ونذكر من أوجه التعاطف بين الفقراء التي عاش تفاصيلها المختار وكتب عنها شعرا قصيدته 'المازقري' وهم فقراء الجهات اللذين كانوا يفرون خلسة إلى ليبيا بحثا عن الرزق والتي قال فيها:
كانوا عشرة
أوجههم مغبرة...
تحرقهم شمس الصيف
في عينيهم آمال يطمسها الخوف
مروا بالقرية ذات مساء
طلبوا جرعة ماء
قالوا جئنا من قفصة
أطردنا عن أهلينا الجوع
هل تعرف ما معنى أن يطردك الجوع
ويلاحق قلبك بالغصّة؟
وذكرت جواز السفر
فأجابوا: يوصلنا ضوء القمر
هل تعرف ما معنى تبقى مقتولا تحت الشمس نهارا
حتى يحييك الليل وضوء القمر؟
جاءتنا الأخبار
أن المسؤولين اكتشفوا جثثا قرب الحدّ الليبي
ماتوا عطشا
هكذا قال الفحص الطبّي
هل تعرف ما معنى أن يطردك الجوع عن الدار
وتغربك ليالي الدرب
ويلاحقك الجوع ليقصف عمرك تحت الشمس
ثم يعود وينسى
أن يمنحك الرمس؟
ولم يمهله الزمن حين ترك بصمات الحزن الغامق فيه على قصر أيامه التي عاش خلالها أيضا أهم الانكسارات العربية بخياناتها وهزائمها الكبيرة من 67 إلى 73 التي بثت بعض بصيص أمل من جديد ببعض انتصار شبحيّ.
كما عاش أهمّ تفاصيل المعارك العفنة بين أبناء الوطن الواحد نتيجة تعنت وتصلب قياداتها ونعني بها الصراع البورقيبي اليوسفي ففي ذات القرية (الزارات) وفي أهمّ رأسي مكوناتها القبلية (من المخاتير الأحاولة إلى اللغامنة) تنازع العرشين المصطفين وكان اللغامنة أغلبية مطلقة يوسفية. ورغم أنّ الصراع داخل القرية لم يكن دمويا إلا أنّ أخبار القتل والتشريد كانت تصل إليهم وبالتفصيل. وهذا الصراع الذي أثر على العلاقات بين مصر التي كانت المتنفس الأدبي والرابط بين الشرق والمغرب بمطابعها ومنشوراتها. كما أن تحوّل الموقف البورقيبي نحو شعارات جديدة وعلى رأسها "الأمة التونسيّة" بكامل ما تحمله من توجه سياسي أنتج تماهيا مع أجنحة يسارية بعينها لم تكن تؤمن بأسس القومية العربية وكانت صحفها ناطقة بالدارجة (اللهجة التونسية).
وهو ما أنتج صراعا أيضا فكريا ثقافيا وإبداعيا عن قيمة ودور اللغة وقداستها في الإبداع ومنه الشعر. والذي كان للمختار فيه موقفا واضحا. حين استخدم اللهجة المحكيّة التي اقحم مفردات منها في قصيده جنبا الى جنب مع اللغة العربيّة. كاستعماله لمفردات مثل "فارينة" "بزناس" "جبري" "جاكيت" "ياربي راني جيعان" "طالوا الايام" ... إلى آخره.
كما كان المكان بتسميته الواقعيّة له دلالة تجمع بين واقعيّة القصيد وبين ربط القارئ والمستمع الى التشابه الإنساني بين ما يحدث في الملاسين أو الجبل الأحمر أو جندوبة أو مدنين بين الريف وشارع الحريّة بالعاصمة من تناقضات موجودة حيثما يوجد الإنسان في أشكالها الطبقيّة.
فما هي العناصر التي جعلت من قصيدته التي نموذج لقصيدة عصره ترد بهذه العناصر تحديدا؟
إنها جملة أحداث ذهبت بجيل كامل نحو ضفة الثوريّة وتثوير الواقع كلّ بمعوله من السياسي إلى الثقافي إلى الإبداعي فنّي كان أو أدبي وهذه الأحداث توزعت بين عالمية ومحليّة. نورد عناصرها التي نراها مهمة في عناصر وننطلق من المحلّي حيث:
* كانت سنة 1964 شهدت إقرار "الاشتراكيّة الدستوريّة" نهجا تنمويا ونجمت عن ذلك إعادة النظر في تصور دور الحزب الحاكم وعلاقته ب"المنظمات القوميّة" وتصور الحياة السياسية (نتائج
مؤتمر المصير العمل 24/10/1964)
* بين 1968 و 1969 تسارع وتيرة نشر التعاضد بغية التعجيل بتعميمه. رؤية بن صالح.
* تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي الذي تأسس بباريس سنة 1963
* أحداث ماي 1968 بباريس. بما حملته من ثورة فكرية وفنيّة وثقافية أدبية.
* وإشعاع كبير للثورة الثقافية الصينية الماوية التي منحت الشباب دورا طلائعي مما منحها صيت كبير خصوصا في محيط الجامعة التونسية في حينه. كما نظيرتها الفيتنامية والكوبية بقياداتها وعلى رأسهم الأممي غيفارا والثورات الإفريقية والعربيّة وهو الذي ينطلق نحو أمميته وإنسانيته بموروثة وانتمائه العربي تحديدا.
* أيضا صعود كبير لنجم الفن والأدب الاشتراكي بواقعيته الاشتراكية وتأثيراتها على الساحة العربية ومن بينها تونس في
مرحلة معينة عاشها الشاعر المختار بتفاصيلها. والإضافات النوعيّة التونسية فيها والتي ستكون ضمن أفكار الطليعة الأدبية في جوهرها العام.
* تأثيرات موجات النهضة الأدبية والفكرية العربية اثر هزيمة 1967. وبروز حركات طلائعية أدبية ومسنودة بأفكار جديدة.
-3- وهنا تتضح الخطوة الثالثة للشاعر وهي المدرجة ضمن خانة الانتماء والانتصار لتوجه ووجهة شعريّة محددة وواضحة.
" بل إنّ وظيفة الأدب الأساسيّة تكون إذاك تجريد الواقع من ثوبه الحسّي المبذول وتصعيده إلى سماء المعاني وجفاف العبر فيبطل الوصف وتأتي الإشارة محلّه وينتفي التصريح وتخلفه الكناية والاقتضاب فيقصر الأدب على هذا التجريد الفاحش الذي نشاهده اليوم في كتبنا ومجلاتنا وصحفنا وتنقطع الصلة بين الأدب والواقع وتنقطع الرابطة بين الأدباء ومعاصريهم فيستحيل الأدب صوتا من وراء القبور يتحدث بلغة لا يأنس إليها إلا خاصة المثقفين ولا يفهمها إلا قلة من الأحياء" (الشاذلي القليبي -الأدب والحياة- مجلة الفكر السنة 1 العدد 5 *1956)
***
* فمن هي معبودته التي تمتلك ناصية وجوده وغيابه؟
وهي قرية صغيرة على أيّام الشاعر. أهلها من البساطة والأريحيّة وصدق المشاعر. بحيث لازالوا في إكرام الغريب والإحاطة بالحبيب على قلّة المورد وقسوة الطبيعة التي زادت في شحه الرزق. مما دفع بأبنائها في وقت مبكر إلى الهجرة إلى فرنسا بالأساس وهذا العنصر مسّ شاعرنا بحيث حرمه لفترة غير قصيرة من التواصل المباشر وحضور الأبّ في حياته. فكانت الأمّ التي هي الملهمة والمعبودة رمز وروح المكان وآيات الزمان. التي ريح الحياة التي تقذفه إلى عوالم الحبّ.مرتكبا بما يدفعه من حبّ محزون أجمل الآثام (الشعر). وللشعر في حياته مرحلتان رئيسيّتين ـ مرحلة القلب العاشق للحياة. الرافض لطقوس القديم البالي. الباحث عنها في جمال الصبايا وروعة الغزل ـ ومرحلة ثانية كانت هي عنوان الشاعر في دفتر تاريخ الشعراء ـ مرحلة العقل الثائر الذي يراكم فكرا ورؤية. بأسس القلب الريفيّ بفطرته وسليقته. وحبّه الصاخب الغاضب أبدا.للناس الكادحين . والفقراء المحرومين المظلومين.
ومرحلتي بنائه الشعريّ يشتركان في الرفض والثورة كعنصر أساس في وجدانه وما الاختلاف سوى بين منطق القلب ومتن العقل وهما مفصولتان بالرحلة فالمرحلة الأولى كانت في أرض معركته الأولى المنبت. أمّا المرحلة الثانية فكانت صدمة واقع تلك العاصمة التي كان في تصوره "كعامة ساكني الريف والمدن البعيدة" جنّة الحضارة ومعلم التحرر والإعتاق من التخلّف. لكن كانت صدمته كبيرة حين رأى أن ما في الريف من رزق على قلّته وطمأنينة وراحة روح وبال. لا توجد في عاصمة الجوع والفقر حتى أنّه اعترف لحلمه أنه حلم (خلواض)
* في قصيد *(حلم رجل "خلواض")..
حلمت الملاّسين في الفجر..
تهاجم باب البحر...
كالريح في هبوطها..
تملّس بطوبها وتضربه بالمطر
وتصعد القربيات إلى أفريكا....
وتسقط لباس المغازات....
في يد الخردة
والروبافيكا...
ـ حلمت: العاصمة وكانت نائمة..
وحالمة
تزخر بالناس والدخان..
رأيت بعض الحيطان في شارع الحرية
تبدّل لغتها الرسميّة...
وبعض الأوثان...
في شارع روما
تسقط مكتومة...
ـ حلمت حلمت...
حكيت حلمي للجيران قالوا..
يا فلان "حلمك حلم رجل خلواض وفي الحكمة قانون
يفرض عليه الإجهاض"...
* ويحمله العقل إلى تأبّط الفكرة. باقتناص ذاكرة المتلقي ومرجعياته الشرعيّة إلى محاورة الرمز. والتلاعب بصوره المحفورة في روح الناس.
* حين يقول: * (أفعال بين فاعل ومفعول)
"هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟...
الذين يعشقون ويغضبون ويقولون...
والذين هم سكوت..
الذين يأكلون الدنيا وتسحرون بالآخرة...
والذين يأكلون الموت..
وينتظرون القوت...
وخلاصة الدنيا إذا وصفناها...
الذين يحكمون فهم "حاكمون"...
والذين محكومون فهم محكوم عليهم.../...
* وكان محرّضا لاذعا وساخر في بعض الأحيان حدّ البكاء من واقع يسير نحو مجهول تأكّد فيما تلاه من أحداث تاريخ البلاد وتطورات مساره بلوغا حدّ انتفاضة (17ديسمبر/14 جانفي) صحّة رؤيته وتوجهه وانتمائه للقاعدة الأصليّة للشاعر والمبدع عموما أي الشعب المحكوم.ولم يساوم أو يهادن ويخدم بلاط الحكّام ولو لبعض غفلة زمنيّة.
- ففي قصيدة. جعلت فرقة موسيقى ملتزمة في أربعينية وفات شاعرنا من عنوانها اسما لها (الحمائم البيض). وهي * (أحزان الحمائم البيض) يقول محرّضا:
لا تستلقي.. تململ في البيضة...
حطّم القشرة..
أزح عن صدرك هذي الصخرة
وصفّق بجناحيك في الهواء الطلق.../...
* ولم يكن يحصر همومه في بعدها الوطني فقط. وإنما أيضا التزم بالبعد الإنساني وتمازج مع هموم الثوريين في العالم خصوصا منهم من كان سندا لقضايا العرب والمتطوعين بدمهم وحياتهم لنصرتهم. أمثال قائد عمليّة مطار اللدّ: الرفيق أوكاموتو. الذي خصّه ب:

* (رسالة حبّ إلى أوكاموتو) يقول فيها.
***
ـ أوكاموتو... أحبك يا أخي الإنسان
ولست أخي في الدين...
ولست بقارئ القرآن...
ولست من "خير أمّة قد أخرجت للناس"
فحين حبول البركان...
تذوب جميع الأجناس...
وتسقط كلّ الأديان.../...
لكن حدث طارئ على الشاعر في جزء أخير من مرحلة العاصمة (أي المرحلة الثانية والأخيرة من حياته) حيث برز تطور في الشكل والأفق لقصيده وكان إيذانا بميلاد جديد لم يسعفه الزمن ليتمّه ويخلّد منه سوى نزر و دفتر صغير لكن على صغره نستشفّ منه محاورة جميلة للشعر العربي الملتزم عموما. ذلك النهج الشعريّ الثوريّ الذي حمل بصمة رواد القصيدة الحديثة المنمقة والمزينة بسحر الحياة العربية البسيطة والريفية أيضا. من أمثال محمود درويش ومظفّر النواب والبياتي وانس الحاج والخال ورواد قصيد لبنان الجديد. فكان المختار مزيج سحريّ لم ينفصل فيه عن وطنه وبلاده بل كرّسه للغرض ذاته. لكن بوعاء جديد. سيبرز بعده وحتى يومنا هذا على أنه الشكل الأرقى للشعر العربي الحديث.
رغم الاصطفاف الفكري الإيديولوجي المؤثّر بشكل جليّ على مجمل أشعار المختار إلاّ أنها لم تخرج عن النسق الطبيعي والإطار المنظّم للقصيد الطليعي بل كان متشبثا بشكل صارم في تبويبه وترتيبه شكلا لقصيدته ومضمونا. والتزم الى حدّ بعيد بمنحاها وأفكارها ودافع عنها بشراسة كبيرة ومن بين المعارك التي خاضها كغيره من المنتمين إلى الطليعة الأدبية ضدّ من كان ينتصر للقصيد الكلاسيكي بلغته التقليدية القرآنية وقواعدها وبلاغتها الكلاسيكية وبعمود الشعر كمقياس للشعر والشاعرية وللشاعر.
كان أن اتهم الكلاسيكيون الطليعيين بعدم القدرة على كتابة عمود الشعر لذلك ذهبوا هذا المذهب المحدث من عجز لا من تفكير وتبصّر ورأي وفكرة. فانبرى عدد من هؤلاء الشباب الطلابي الطليعي وشحذوا أقلامهم وكتبوا القصيد *(...)* لكن بإضافة نوعيّة وهي تحديث المضمون وعصرنته (أي صبغوه بصبغة مواضيع عصرهم وهمومهم التي طرحوها في صلب مشروعهم الطليعي) وهو ما فعل المختار ذاته مثلا في قصيده يقول فيه: "ذكرى الصيف"
خليلي عند مجيء الشتاء * بليل طويل ويوم قصير
وحزن وهمّ وبرد وغيم * وبرق ورعد به والمطر
وكسر غصون وشجو طيور * وتجميد نهر ويبس زهر
فلا تشكوا لي صروف الزمان * ولا القلب يبكي ولا ينفطر
ولا النفس تلعن هذا الوجود * ولا الصوت يعلو بشتم القدر
ولا تذكرا لي صعب الدروس * وطول الليالي وطول السهر
وضيقا بمعهد هذي المدينة * وخوف العقاب وكثر الحذر
ولكن ألا تذكرا لي صيفا * ينسى بذكراه هذا الدهر
وريفا هنالك يرنو إلينا * وبيتا عزيزا به ينتظر
هناك على المرج كم قد شدونا * وكم قد رقصنا بظل الشجر
وكم قد شربنا بينبوع ماء * وكم قد قطفنا لذيذ الثمر
وبين التلال وتحت الهضاب * نصيد الغزال ونقفوا الأثر
لنرجع دوما بخفي حنين * وما الصيد غير الهوى الخفر
وبحر جميل وأجمل منه * صبايا المروج، فهنّ الدرر
هناك على الرمل كم قد جلسن * يداعبهنّ النسيم العطر
فيمضي قد ازداد عطرا وعطرا * مزيدا ضحايا وأين المفرّ
***
*(...)*
خليلي طاب بنا ذا التمني * ليوم الرجوع وهجر الحضر
وطال النشيد بطول التمني * فغابت رسوم وجاءت صور
كذا يا خليلي نذكر ليال * لننسى الليالي التي تستمر
ونذكر صيفا وحبّا وخيرا * لننسى شتاء وسخطا وشرّ.../...
(حي المنارة 1969)

***
'اللغة'
1* "أمّا الموقف من اللغة في قول جماعة تيّار الحفاظ فلم يتبدّل إلى يومنا هذا إذ يميل دائما إلى تبني تصوّر خاص لمدلول سلامة اللغة، والانصراف إلى نقد كلّ ما ينشر على هذا الأساس واتهام كلّ مبدع مجدّد بجهله للغة العربية وتنكبّه عن سلامة اللغة ومتانتها. وهم في هذا يلتقون مع الزيتونيين والمحافظين. فقد كتب فيما كتب عند صدور ديوان أبي القاسم الشابي بعد وفاته بعشرين سنة وبعد أن طبّقت سمعته الآفاق في المشرق العربي ومصر خاصة التي كانت العامل الكبير في شهرته: "فشعر أبي القاسم لا يخلو من هزال وتهلهل إذ أنت قسته بمقياس الألفاظ والتراكيب القواعديّة وأغضيت عمّا فيه من روح معنويّ حيّ وقوالب أسلوبيّة طريفة وذوق لطيف في تخيّر الأوزان والتنسيق بين القوافي" (من مجلة الفكر في سنتها الأولى العدد 4 جانفي 1956 ص 66)

-اللغة في شعر المختار الطليعي
كان عرس مواراته الثرى في منبته "قرية الزارات" وترجّله راحلة الأيام. رجّة لهيكل كلماته التي سكنت لسان وقلوب ثوار أيامه في تونس. التي كان صورتها وصوتها الواقعي الحقيقي. على بساطة كلماته وعمق معانيها الإنسانية وبروحه الجنوبية البسيطة المحافظة على الودّ والحبّ والتآزر والتآخي التي كان حريصا على إشاعتها بين رفقائه وأصحابه وكانت دليل ونهج محبّته للشعب بأسره الذي تكلّم بلسانه وببساطة مفرداته اللغوية الشعبيّة. وهو ذاته من يوصّفها بصراحته الجنوبيّة المكشوفة،
هذا الوعي الذي يتحدد ليس فقط على مستوى العبارة والمضمون بل والشكل الوعاء الشعري أيضا فالخيار الشعريّ الجامع بين ما هو مضمّن من معاني وبين شكل القصيدة هو واحد في فعله وقراره في متلقيه ومن هنا كان يصرّ المختار على أنّ عبارته شعبيّة ألم يقول الشاعر في قصيدته 'عبارتي شعبيّة'
عبارتي شعبيّة
عاملة ساعية
وواعية... أضربت على الأعمال الفنية.
عبارتي شعبيّة.. قبيحة كالجوع
ولا تصف الربيع... فهي ليست شعريّة؟
(...) عبارتي شعبيّة
يرفضها أرباب الجرائد
ولا يمنحونها حقّ لجوء القصائد
لأنها حمّالة سوء
شقيّة (...)
عبارتي شعبيّة
تجوع كالفلاحين
وتعطش كالعمال
وتحبس كالثوريين
لكن تبقى مثلهم حيّه.../...
إنّ تأثيرا الواقعيّة الاشتراكيّة بجميع مفرداتها واضحة في أثر شعراء السبعينات في تونس وليس ذلك بالغريب إذا ما أخضعنا هذا النهج المتبع لمتغيرات دولية وإقليمية ووطنيّة خصوصا. إذ كانت تلك الفترة هي ذروة الصراع والصدام مع سلطة قامعة بوليسيّة استندت إلى قوّة البوليس لترسي الأمن السياسي. ووظفت القانون لتنشئ محكمة خاصة "محكمة أمن الدولة" قدّام المدّ الثوري الشيوعي. الذي فضحها على أنها سلطة عميلة تكرّس ليس سلطة المستعمر القديم بل وفتحت البلاد لسلطة مستعمر أخطر الإمبرياليّة والصهيونيّة العالميّة وعلى رأسها أمريكا.
* هذا على مستوى المضامين والمعاني أمّا الحامل الشعري والوعاء: فكانت الطليعة الأدبيّة هي رؤية ثوريّة وطنيّة تونسيّة. ثقافيّة. شعريّة. وأدبيّة عموما. تحاور الأفكار العربيّة. والإنسانية الثوريّة في حينه.وتحدد مجال تحرك المبدع والمثقف العضويّ في صميم هموم شعبه ووطنه وهو النموذج العربي والإنساني. لمعاناة وشقاء هذا الإنسان الذي ينشد الحرّية وحقّه الشرعيّ والقانونيّ والطبيعيّ في الرغيف بعزّة وكرامة. منها يبني عزّة وكرامة وطن برمّته. وشاعرنا لم يكن سوى حلقة من سلسلة يتواصل صهرها حتى الآن وحتى غد الإنسانية. فلا أدب ولا فنّ ولا إبداع بلا قضيّة ولا وجهة نظر تنتمي اليه معنى ومبنى. وما مقولة الفنّ للفنّ سوى مقولة هارب من ساحة المعركة. متغطّي برداء برجوازي. نسجه الخوف من قمع السلطة من جهة والاسترزاق من فتات القصور من جهة أخرى. وكان الشاعر قد التزم وألزم قلمه على الانتماء للشعب حتى في انتقاء العبارة واللفظ الذي يصل بسهولة وسلاسة إلى روح الناس البسطاء.بدون تعقيدات لغوية وبلاغيّة ومحاسن لفظيّة تركها إلى حينها وسنورد هذا التحوّل في الشكل والبنية لاحقا وفي حينه.فهو وبحكم انتمائه للشعب المفقّر والمجوّع.
يلتحم معهم في *(تقديمات للعبارة الشعريّة): حيث يقول:
أحبها بسيطة كمنازل الطوب..
كلباس ريفيّ من الجنوب..
كحديث عامل من بلادي
كفطور الخمّاس في فصل الحصاد..
أحبها شقية كصندوق شيات..
كبرويطة حمّال.. كحديث بلا بروتوكول..
وبلا مقدمات.../...
***

2* "رغم تغلغل هذا التيّار الحفاظيّ وأثره السيئ على مسيرة أدبنا فإنّ تيّار التجديد بوجوهه المتعددة والمتنوعة وجد ويجد في الجامعة التونسيّة وفي الساحة الثقافيّة من يعضده. وليس من الهيّن الإلمام بملامحه كلّها لتنوّعها وتشعبها. ولكن لا بدّ لكلّ منصف يتحرّى الحقيقة والتاريخ بالنسبة إلى هذا المنحى التجديدي أن لا يؤكد على دور وزارة الثقافة منذ تأسيسها سنة 1962، وأن لا يولي المكانة اللائقة لما قامت به في مجال الفكر والأدب مجلّة الفكر واتحاد الكتّاب التونسيين." (البشير بن سلامة – التيارات الأدبية في تونس المعاصرة)

لكنّ شاعرنا بمعيّة رفاق دربه كوّنوا سلطة معنويّة لمن يدعوهم "بورقيبة (بالأفاقين)" القادمين من ريفهم بغبار هذا الريف ناشدين موقعا في المشهد الوطني. وهنا نورد إجابة الشاعر الصريحة متغنّيا بخصال منبته الريفيّ الذي أنشأه كغيره من الريفيين بلا زيف أو أقنعة المدينة التي اكتشفوا أمراضها تلك زمن قدومهم طالبين العلم من مناراتها التي تعجّ بالريفيين.
* وبسخرية مبطنة واعتزاز واضح يقول:في قصيد(ريفي)
ريفي.
كأن تقول "جبري" غريب عن الحضارة
ومن الحفاة العراة المعفسين على الحجارة
ريفي.. كأن تقول "غبيّ" في مسرحيات الإذاعة
يهدي الدجاج والبيض...
في سنوات المجاعة.........
...ريفي..
كأن يقول للدجاج..
دجاجة
ويعطش... ويعرى...
ولا تحنيه الحاجة...
وهنا أجدني مجبرا على أن أمرّ من ثنايا النخل والتين والزيتون. ومسارب الواحة... وملح البحر.. حرارة ماء العين.. في (زارات) جنّة الشاعر.. وملهمته الأولى.. ومن رزقته الخمسة والعشرين ربيعا من الحبّ المحزون... والشدو الحنون.. وروح الجنون... التي زاوجته ونصرة شعبه المفقّر... ليدفعهم في فخر وانتشاء وهو صارخا:
*ـ ارتفعي يا أيدي...
يا أيدي ارتفعي شددي القبضات...
أصافحكم...
أصافحكم...
يا حاملين في قبضاتكم هدير البحر الآتي... /...
وفي هذه المرحلة من الكتابة لدى المختار تظهر جليا روح الساخر من واقعه لكن بمرارة واقع ينحدر نحو الحضيض ليهان فيه الإنسان إلى درجة تصبح فيه الحياة مهزلة فيستخدم المشاهد الواقعية بمفردات ساخرة ومثيرة مثل قوله في قصيدته "من يوميات "بزناس".
* السبت – الأحد – الإثنين
بقرة هولنديّة... ربطتني بعلاقة 'أخويّة'
في اليوم الأول: قدّمت لي زوجها
في اليوم الثاني: قدّمت لي حبيبها...
في اليوم الثالث: أرضعتني حليبها...
***

موسيقى الشعر * "الموسيقى الشعرية كائن حيّ يتطور بتطوّر ذوق البشر" * " الإيقاع يسهم في تكييفه حتى نسق التنفس 'تفعيلة الحياة' هي وزن الشعر الجديد "أيركب الشاعر منا اليوم السيارة والقطار والطائرة ويزن الشعر بخطو الجمال؟" {توفيق بكار}
***

{المختار اللغماني والبداية من رحم النهاية}
*أو ميلاد من رميم الموت*
وهنا أجدني منبهرا ومجذوبا لقصيده الرائع الذي حفر فينا مسافة بين درس شعري وآخر. بين نمط ومدرسة وأخرى نابعة من واقع المدرسة الأولى كفرع أصبح بمرور الزمن هو الأصل المعتمد. والمسمى في بعده الإنساني بالواقعيّة السحريّة.
* وأعني قصيد *(حفريات في جسد عربي) والذي يستهله بروحه الثائرة دوما قائلا:
لا تقتل حلمي...
باسم الله..
وباسم الدين..
وباسم القانون..
ولا تذبح قلمي....
كلماتك حمرا قال فما لون دمي ...
إنّي أشهد بحمام العالم...
بالزيتون المطعون...
بالبحر المسجون...
وبالدنيا..
وأنا أعرف ليس في الدنيا أحلى أو أغلى من هذي الدنيا...
أشهد أنّي عربيّ حتى آخر نبض في عرقي...
عربيّ صوتي...
عربيّ عشقي...
عربيّ ضحكي وبكائي..
عربيّ في رغباتي الممنوعة... في أهوائي...
عربيّ فيما أشعر...
عربيّ فيما أكتب..
لكنّ العالم أرحب...........
لكن العالم أرحب.../...
- ورغم أنني لا يمكن أن يوقفني تصفحي لعالم المختار اللغماني عند هذا الحدّ لكن لضرورة الصمت في زمن يركبه منتحلي التقوّل فإنني سأصمت لأترك لمن يريد الغوص في هذا العالم الرائع لشاعر أعاد للزمن بريقه وهو يرقد في آخر لحظة من حياته على سرير النهاية التي ولدت شاعر الالتزام والثورة لسان الثوريين في الجامعة وفي نخب الشارع الفكري والثقافي والشعري.
* وهو يقول: * (التعبير عن الغربة) وهي آخر ما كتب.
عيناي بؤرتان منفيتان في المدينة المفنى
عيناي نائمتان على دائي.. معلقتان على أهوائي
مصلوبتان على سرير عمري المستشفى
عيناي الضيقتان.. واسعتان جوع
يا بستان.. ناشفتان عطش...
عيناي مسافران ضائعان يبحثان عن ينبوع
في زمان الضياع والغربة
متهافت.. متهافت أنا على المتعة
وعلى المعاصي السبعة
وسائر في طريق مشبوه فيها
وسالك سبلا صعبة
يا مستنقعات الأيام
يا مزابل منتصف الليل... يا عمري
مالي ولهذا الزمان المجدب القفر
مالي ولعصري؟؟؟
- وكان عصر يوم غائم حزين من مستهلّ شهر جانفي شهر كان ولا يزال شهر ميلاد الثورة في تونس وآخرها وليس آخرا... (14 جانفي 2010) الذي أقسم فيه الشاعر آخر أيمانه الغليظة... حين أقسم على انتصار الشمس.
* ونختم ببرقية شعريّة بديعة في شكلها وعناها المتناغمين والمتناسقين وأيضا في اختصارها وتكثيفها والمراوغة الجميلة في خاتمتها. والتي تحمل عنوانا: "الحديث عن فلسطين"
يتعمّق جرحك إثر كلّ هزيمة
يتكشّف عن سحر الأجداد... وشعر ألأسياد...
وإذا أنت... كما كنت... وليمة./.
***

-الورقة الأخيرة-
كان أوّل الواثبين في قافلة المودّعين (على اختلاف السبل في نهج الحياة الشعريّة والسياسيّة) ابن دمه وجدول من جداول القبيلة: الشاعر العربي بإشعاعه أحمد اللغماني. حيث راسل روح المختار قائلا في وداع الأخ الأكبر ألحنون رغما كلّ الاختلافات الشعريّة والفكريّة *
(قصيدة: فظيع... أفول الأهلّة "إلى روح الشاعر الشاب المختار اللغماني
" جريدة "الصباح" الخميس 20/01/1977).
...فظيع أفول الأهلّة
... فظيع...
توارى الهلال ولم يتبرّج سوى بعض ليله..
على مطلع شفقيّ البساط
تنفست اللمحات المطلّة...
فكانت عبيرا مشعّ
وكانت ضياء يضوع
وكانت على الأفق شعلة.../...
***

* في مهرجان الشعر العربي وعلى ركح المسرح الأثري الروماني بقرطاج صائفة 1977 شهر أوت وبين قصائد كبار القصيد العربي المعاصر أمثال محمود درويش ونزار قباني وأدونيس وبين جمع من رواد القصيد المعاصر التونسي أمثال حبيب الزناد وسوف عبيد ويوسف رزوقة والطاهر الهمامي وفضيلة الشابي ومن أتينا على ذكرهم سابقا ضمن نوادي الشعر ومن لم نذكره لضيق المجال وكثرة الأسماء يصعد نجم المختار الساكن في قبره ليعيش عبر قصيده حفريات في جسد عربي لحظة الانتشاء وهي تتلى على الحاضرين.
المختار المختاري 'الزاراتي'
07/2020

Comments