top of page
Rechercher

المجموعة الشعرية "نسيج الروح" للشاعرة د. مفيدة الجلاصي قراءة حفرية للمختار المختاري 'الزاراتي'

  • Photo du rédacteur: zaratimoukhi
    zaratimoukhi
  • 19 déc. 2020
  • 13 min de lecture

Dernière mise à jour : 21 mars 2021


*تصدير*

طويلا يظلّ الكلام الشعريّ واقفا على تخوم الصمت يجاهد ليكون. والشاعر يدرك أنّها "حالة الخطر" ويجاهد، بدوره، ليكون. ذلك أنهما ينهضان معا في نفس اللحظة: الشعر والشاعر. ويقينا يعلم الشاعر أنّ "القصيدة الآن (...) ولكنها لا تصل "لأنه مازال واقفا على تخوم الصمت "يكتب صمته". و... تولد القصيدة. في لحظة متميّزة، متفرّدة من رحاب الصمت تطلع، "مثل نبع خفيّ التدفّق" يبدأ "الهدير المكتوم". إنها لحظة المكاشفة. لحظة ميلاد الحدث الشعري: يمثل الشاعر في حضرة الشعر. وبالمقابل، يأتي الشعر ليتبدّى في حضرة الشاعر وعدا يمكن الإمساك به. إنها لحظة مكاشفة الشاعر لذات الشعر. في رحابها، يحقق الشاعر إطلالة متفرّدة على ما يمكن في اللغة من قوانين توليدية تظلّ متكتّمة على نفسها، مستترة، غاية التستّر، حتى لكأنها تمثّل نوعا من الما وراء، حالما يبلغه الكلام، ينحدر منه وقد نشكّل وفق طرائق يقف الخطاب العاديّ أمامها قاصرا عاجزا وهو، حين يستند إلى مفعولاتها، يتحوّل إلى كلام شعريّ يقول ما في التجلّي من خفاء كامن أي ينفتح على ملاذ بالصمت واحتمى بالظلّ. لحظة المكاشفة الشعريّة (إطلالة على مدار الرعب) محمد لطفي اليوسفي

***

*هويّة الهويّة أو الهويّة الصفر{0}

في أول ملامسة للكتاب يطالعنا على مقربة من نسيج الروح تبويب مضمّخ بأحمر الشدّ والجذب ومكتوب بأبيض واضح: 'نصوص شعريّة'.

وبالمناسبة التي أنتهزها لبعض التوضيح لمستخدمي اصطلاح (نصّ شعريّ). فالنصّ لغويا وفي تعريف من بين كمّ هائل من التعريفات وأقربهم لصحيحه ما جاء عند 'ابن منظور' قوله: (النصّ رفعك الشيء. نصّ الحديث ينصّه نصّا رفعه، وكلّ ما أظهر، فقد نصّ "..." وأصل النصّ أقصى الشيء وغايته.) وأمّا الفقهاء ومشرعيه المستندين للشرع الشرعيّ فهم يغلقون دائرة النصّ بقولهم (لا اجتهاد مع النصّ) وهنا نرى بوضوح لا النافية الزجريّة الصريحة ويسترسلون في هذا المنحى بقولهم عن النصّ وثبات معانيه (ما لا يحتمل إلاّ معنى واحدا وما لا يحتمل التأويل) واقترن مصطلح نصّ بما هو نثريّ ليبتعد أصلا وعنى ومفهوم عن بوتقة الشعر.

إلاّ أن الغرب أعاد نسج خيوط هذا الاصطلاح من خلال اختلاف اللغة وعانيها. فمثلا في اللغة الفرنسيّة تكون كلمة texte رديف واشتقاق لفظيّ لمعنى مرتبط بالنسج والحياكة (أي صناعة الغزل والنسيج) ومنها textile وكلّ ما استخرج من اشتقاق لهذا المصطلح لم يبتعد عن مفهومه العام الأصلي. لنرى أنّ النصّ هو نسج وغزل وحياكة وترصيع باللغة ومعاولها وهي تنظيم وترتيب وخلق وابتكار نساج مبدع. ونسج الأصوات المصوتة والصوامت الصامتة التي تتكون منها الكلمة باختيار وترصيع وارتكاز منه الإبداعي ومنه الصناعي هو أساس العملية الشعريّة أيضا التي من هنا نلحظ التشابه مع معنى texte النسج والغزل الصناعي. ومن هنا وردت تعريفات مغايرة ومخالفة لتعاريف العرب القدامى للنص ومفهومه ومقاصده ونظامه.

* ويعرّف تودوروف النصّ بقوله: "النصّ إنتاج لغويّ منغلق على ذاته، ومستقلّ بدلالاته وقد يكون جملة. أو كتابا بأكمله"

* أمّا الباحث الروسي 'لوتمان lotman' فيعرف النصّ: على أنه "يعتمد على ثلاث مكونات (التعبير) أي 'الجانب اللغوي' و( التحديد) أي أن النص دلالة لا تقبل التجزئة "فهو يحقق دلالة ثقافية محددة، وينقل دلالتها الكاملة" (والخاصية البنيوية) وتعني أنّ النصّ بنية منظمة وليس مجرّد متوالية من العلامات. بل التنظيم الداخلي ضروري للنصّ وأساس في تكوينه. (1) كما عرّف عرب الحداثة النصّ بعد الورود بمفاهيم جديدة ومن بينهم نستند لما أورده سعيد يقطين الذي يعرفه على أنه "بنية دلالية تنتجها ذات (فرديّة أو جماعيّة) ضمن بنية نصيّة منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعيّة محددة". أما محمد مفتاح فيعرفه: "النصّ. وحدات لغويّة طبيعية منضدة متسقة منسجمة" ومقوماته الأساسية أنّ النص لديه مدونة كلاميّة، وحدث تواصلي، تفاعليّ، وله بداية ونهاية، أي أنه مغلق كتابيا، لكنه توالديّ معنويا لأنه "متولد من أحداث تاريخيّة ونفسانية ولغويّة... وتتناسل منه أحداث لغويّة أخرى لاحقة له". (2) أمّا في بلادنا وهنا أربط هذا التمهيد مع أصل الموضوع المخصص لهذه المناسبة حين أذكر ما كتبه * في كتابه (وجود النصّ – نصّ الوجود للكاتب والناقد التونسي مصطفى الكيلاني)

-1- النصّ أيضا وجود يختزن نواة أولى هي بمثابة الخليّة أو الخميرة التي أخرجها الكاتب من حيّز الإمكان إلى الواقع فتشكّلت لغويا ثم استقرّت في ظاهرة نصّية..

*فهل ما تكتبه الشاعرة مفيدة الجلاصي نصا شعريّا بمفاهيم النصّ الشعري أم هو ضرب آخر من ضروب الكتابة الشعريّة هذا ما سيتضح في ختام ما سنورده في هذا التقصّي والحفر والتشريح السريع والمختصر لمجموعتها التي بين أيدينا {نسيج الروح}؟


* بطاقة هويّة دنيويّة {1}

الشاعرة مفيدة الجلاصي دكتورة في اللغة والأدب الحديث اختصاص نقد أدبي من تونس شاعرة وكاتبة وتدرّس اللغة العربيّة بالمعهد الثانوي أحرزت على شهادة الدكتوراه من خلال بحثها الحامل لعنوان ومتن "الخطاب النقدي عند ميخائيل نعيمة" من خلال عمله "الغربال" نشرت العديد من المقالات النقديّة بحوليات الجامعة التونسية ناشطة صلب الجمعيات والنوادي الأدبيّة.

* بطاقة هويّة شعريّة {2}

وعن دار المنتدى للثقافة والإعلام للنشر وفي طبعة أولى للسنة 2019 المجموعة البكر للشاعرة مفيدة الجلاصي يحمل بصمة "نسيج الروح" تحدد الشاعرة دفترها بثنائيّة (نصوص شعريّة) في الغلاف الخارجي.

هذا الغلاف الذي إن كان بصورته الباحثة عن غموض ما يختلط ببريق أمل في فرح ما من خلال الالوان الزاهية الناريّة في أغلبها الأعم وهو ما يؤكّد لدى التشكيليين وعلم النفس عن حالة غضب ومخاض تشكّل صاخب. فيه من الأنوثة بصمة واضحة جليّة لكن الكماشة السفليّة لقفاء السيدة غيّب كلّ ابهام أو تعتيم ليترك للرائي تأويلات عدة. وهذا ما يجعل الغلاف مفتاح السؤال الأول الذي يفتح شهية القارئ للتصفّح كما لتوزيع الفضاء فيه بين الكتابة والصورة في الغلاف تناغما مبلغا بمعزل عن الجمالية التي بلغت اربها.

***

* بطاقة هويّة نسيج الروح {3}

* اللغة:

إنّ تمكّن الشاعرة من اللغة قاموسا ومخزونا لفظيا وقواعد لغويّة جعل من قصيدتها وحدة متماسكة تحمل من الشاعريّة ما يجعلها تشي ضمنا أحيانا وظاهريا أحيانا أخرى بتوتر الذات وقلق الفكر ورقّة الإحساس الذي يذهب بصاحبه نحو التعب جراء ما سبق ذكره من قلق ذهني فكريّ وتعب وتوتّر ذاتي ربّما يكون مصدره اليوميّ والمعاش ومفارقاته مع واقع متردّي.

ولكن سحر اللغة التي تفضح في كثير من الأحيان نبل أحاسيس الشاعرة وصدقيتها في سحريّة العبارة المنتقاة بعناية وتركيز جليّ على اختيار المبلّغ والملامس لقراره روح المتلقّي. وهنا يجرّنا الحديث إلى اختيار الشاعرة لضرب من التوكيد الغير لفظيّ بل بتكرار الصور لكن بتجديد ظاهرها وبعض التفاصيل التي تحمي هذا التكرار من الإملال أو الاستنكار أو الاستهجان. كما نلاحظ في اللغة التي تستخدمها الشاعرة انتقاء متميّز ومميّز للفظ السلس الغنائيّ والمحتوي على حروف صوتيّة مجتمعة في لفظ مموسق (حيث يوزّع فضاء اللفظ بين صامت وصوائت بين ساكن ومتحرّك وفي اتحادهما تناغم وتآلف حسّي شعريّ ببساطته وغنائيته. والذي ينبع من الذاتي ليبلغ الجمعيّ العام (الموضوعيّ) في مراوحة بين المرغوب والمطلوب والواقع بتفاصيله وتقسيماته وأجزاءه. كما يتضح من المكوّن المعرفي العلمي في انتقاء التراكيب اللغويّة البسيطة الغلاف والعميقة التبليغ والسلسة المتدرّجة بالقارئ إلى الغوص في عالم القصيدة بتحاشي غريب الالفاظ وانتقاء عتيق الكلمات المعجميّة التي ممكنة الإحياء لما فيها من غنائيّة شعريّة صوتيّة رقيقة وراقية (كما ذنب مدنفة أو بعد هجعة أو على الأفنان... إلى آخره) . والتخلّي عن التراكيب اللغويّة الممجوجة والمخلّة بعالم الشعر وفضاء القصيدة. وقد نجحت الشاعرة في ذلك بنسبة مهمة ومحترمة. كما استثمرت في الرمز ومنه الرمز القرآني على قلّة استخدامه كقولها 'يبشر بالويل والثبور' في نص "تباريح الأشواق" كان موظفا في محلّه وموضعه ويتممّ الدلالة المرجوّة.

- ونستدلّ على ما سبق تشريحه في قولها الذي يجمع هذه العناصر المذكورة في قصيد:

*ماذا لو؟ (صفحة 29)

***

* الشعريّة والشاعريّة وهندسة الكلام:

كتب صاحب (لحظة المكاشفة الشعرية "إطلالة على مدار الرعب" للناقد محمد لطفي اليوسفي)

(...) ومن ثم يصبح النص، في حدّ ذاته، عبارة من إطلالة على ما لاذ بالصمت من الوجع البشريّ الشامل وانفتاحا على حركة الجدل الكوني العام أي تلك الحركة الهائلة التي تجعل الذاتي يرشح بالكوني المتواري فيه.

* ونحن نتجوّل في عوالم نسيج روح الشاعرة تحملنا لغة ومناخات نصوصها في أغلبها نكتشف أنّ الشاعرة استلهمت من مخزونها الباطني الثقافي والمعرفي {بوعي أو بغير وعي وبعفويّ} عناصر اتخذتها وعاء لمعانيها أهمّ هذه المناخات والعوالم هي ما جانس وتشابه مع القصيد العربي في عصريه العباسي والأموي خصوصا. مثل نصوصها 'رحيق الحنين' (ص42) أو هفيف حلم (ص61) وغيرها من النصوص التي تميزت بلغة مستلهمة مناخاتها من دفتر الشعر العربي لكن بمعاول الراهن لدى الشاعرة. "وراهنها حسّي رومنسيّ". موقّع بواقع تعيشه المبدعة ذاتها سواء في وسادة الحلم والتخيّل أو على أرصفة شارع خلفيّ أو رسميّ واقعيّ. وبفعل الزمن وحداثة المتن والمعنى. جنحت بهذا العتيق المعتّق إلى مشهديّة معاصرة مواكبة ومتسقة مع ذاتها التي تحي هذه الأيام بتفاصيلها البسيطة والعميقة. هذه المعاني والمتن الذي انغمس في روح الرومنسيّة العاشقة والهيام الحسّي المنساب. وهذا المعطى استثمرته الشاعرة (سواء بشكل قصديّ أو رغبة حسيّة جماليّة أو بتوجيه باطني غير واعي) إلا أنه مثل ما يشابه خصوصيّة وبصمة خاصة جمعت في طياتها جملة تناقضات الإنسان بين ماضيه وحاضره حيث اجتمعا في وعاء واحد وكذلك تشابه الأمس واليوم في جملة عناصر إنسانية مكونة لمكوناته. وعناصر وجوده كإنسان كالحبّ والرغبة في الحياة والحاجة إلى الآخر وغير ذلك من عناصر التكوين والكينونة. التي برزت من خلال نصوص الشاعرة كوحدة جامعة وفارقة في تناقضات جميلة غير مرئيّة ومبسوطة في معاني جملها بينما برزت من خلال المناخات وعوالم النصوص. خصوصا في عنصر اللغة والعبارة واللفظ المنتقى بعناية مقصودة. والضمائر المستخدمة والتي راوحت بين الذاتي (في الأنا المخاطب) والموضوعي (ألهو المخاطب) أو أيضا يمكن أن تكون (الهيّ) لكن مغلفة بهو. ربّما للمواربة والتخفّي حتى لا تفضح أكثر ميلها للنصّ المؤنّث أو ما يعبّر عنه بالأدب النسوي في أنثويته وأنوثته. *متماهية مع فكرة مصطفى الكيلاني في كتابه (وجود النص. نص الوجود) والتي يقول فيها:

هي لغة مجازيّة في الأساس تنبذ التبسيط المخادع وتسعى إلى معانقة الجسد وإنارة الأصول بمفهوم يقرّ التوحد والانفصال معا بين الفكريّ والجسديّ بعيدا عن التجريبية والفكرية الروحانية القديمة والماديّة الميكانيكية.

* فهي تستخدم هذه الثنائيّة سريّة مضمنة بمخادعة مواربة (المذكّر القابل للتأنيث والتأنيث القابل للتذكير) في قصائد عديدة مثل "انحت كيانك" والتي لا يبرز فيها نوع وجنس المخاطب جليا رغم استخدام الشاعرة لضمير التذكير لكن موضوع النص قابل للتأويل ومنه للتأنيث أيضا بزيادة ضمير التنسيب للجنس. وبالتالي فإنّ الخطاب يمكن توأمته. كما يبرز ذلك أيضا في نصوصها "تلك دفاترك" أو تلك أمانيك" وتقريبا وردت في المجموعة متتالية في ترتيبها. وهنا يمكن حصر أنفاس الشاعرة ونسيج روحها في دفتر الرومنسية الحالمة رغم تلك الثنائيّة المتناقضة وربّما المتضادة في أحيان مثل المراوحة بين الشوق والحنين والغضب والعتاب والحلم والواقع والخيال والمعاش وتلخيصا الشعور الذي يغيب عنه العقل والتفكير وانسياب إلى الحلم وبين رغبة العقل 'نسبيا' في الحدّ من إتباع الحبيب والخضوع والركوع للزمن وله لكن بمنطق غلب عليه الحسّي الحالم اللطيف في أحيان كثيرة رغم غلاف العتاب والشكوى والنجوى ايضا. الشيء الذي خلق في نصوص الشاعرة استرسال وانسيابية وبعض توتّر زعزع في أحيان نظام الإيقاع لكنه كان ملامسا لقلب القارئ الذي ينساق طوعا لهذه الانسيابية والسلاسة والبساطة الحالمة. فينجرّ نحو متابعة الرحلة حتى النهاية. هذه النهاية التي هي منفتحة. إذ هي تفتح نافذة على بداية أخرى ربّما في نصّ قادم من نصوص المجموعة. من ذلك الترابط الضمني في رحلة العشق البعيدة المدى في ملكوت الرومنسيّة الحالمة الجميلة بين ثنايا نصوص كنصوصها. "تتمنع" و "كفراشة قلبي" و "حنانيك" و "الويل لك" و "بوح صمت" و "رحيل الحلم"... إلخ. ومن ما ورد في نصّها "تمرّد صمت" (ص 15) قولها:

حروفي تخترق جدار الصوت

تستنطق صمتي الهادر كموج البحر

لا يعترف بالسكون

يصهرك في تياره يذيبك

أرتاك كنت ذاك الجنين

تلاعب به الحنين نما وللحياة تأهب؟

يلثم ثراها ويسكره فيعربد

ترضى منها بذلّ القيود وتعلن تمرداااا

ولا تتهيب عنادا عشش فيك

وصدود ماله حدود يحتويك

وأنت الذي تشهد ما منه يذوب ذاك الصخر الجلمود

تندحر في تخومه الأشواق

تنهال عليك ...ى لا تصدها عنك

تقتحم عنوة وأنت لها المطيع.../...

***

* في المتن وروحه نسيج من وحي المشهد الحقيقي للحبّ:

*يقول أبو زيان السعدي في كتابه (ألوان في النقد والأدب):

*لعلّ القرّاء لاحظوا منذ عقد من السنين – على الأقل – أنّ الشعراء في تونس وفي البلاد العربية الأخرى أيضا قد طرقوا موضوعات لا صلة لها بحياة الناس الاجتماعيّة أو فلنقل إنهم تحوّلوا إلى ملامسة قضايا عامه تتسع أحيانا حتّى لتشمل الإنسان في أقاصي ألأرض وتضيق أحيانا حتى تنكمش في أغوار ألذات وقد لفّها الصمت والاغتراب ونأت عن الإفصاح والبيان حتى لم تعد تدري حقيقة ما تقول كأنه الانبتات الذي يلغي المكان والزمان فإذا هو أنساق من التصوّر والتخيل تجفو الواقع وتقترف ألنسيان وتختطّ المستحيل الذي يطلب فلا يدرك ذلك لأنّ شعراءنا العرب في كثرتهم وبخاصة الشباب منهم قد فهموا الثقافة العولميّة الجديدة على أنها الارتفاع فوق القضايا العاجلة والآجلة والابتعاد عن ملاحم الصراع بين القوى غير المتكافئة...

***

* إنّ الشاعرة مفيدة الجلاصي قدمت لنا في هذه المجموعة من النصوص نسيج روح عاشقة للحياة وللحبّ ومحاربة شرسة على جملة مبادئ وقيم باتت في العصر وعلى أيامنا من قبيل الحلم الرومنسي نتاج التبدلات والتغيرات السريعة لجملة هذه القيم والمبادئ التي نشأنا عليها جميعا ونتاج المتغيرات السريعة والكبيرة في البنية المجتمعية التابعة للرأسمالية بغير معرفة ولا اطلاع ولا اكتساب مهارات معرفية تحمي المجتمع من هزات وارتدادات تصيبه في مقتل وهذا ما ذهب بالشاعرة لنسج روحها التي باتت حلما رومنسيا غلبت عليه جبّة الحنين والمناجاة التي تقترب من المناجاة الصوفيّة فتلامس دفتره اللغوي اللفظيّ في أحيان وربّما التجاءها لدفتر الشعر العربي في مناخاته وليس إتباعا أعمى ونقلا ممجوجا باهتا بل هو اعادة انتاج مدروسة سلفا ومقتنصة لما يخدم مبتغاها ورغبتها في إيضاح عالم راوح بين الروحي الذاتي والمنسوج العام. لذلك هي رحلت في سفرة بعيدة المدى إلى حيث يصبح الحلم مباحا ومسرحا لشخوص لم تكن أبدا وهميّة بقدر ما حاولت إخفاء وجودها في أيامنا. وإن كان اغترابها العاري في تلك اللوعة والحنين والشوق سواء للحبيب أو لهدف رسمته وأخفته في طيات العبارة فإن العتاب والملام وحتى الغضب الرقيق الذي تخلّى عن الصخب وعنف العبارة جعل المجموعة علامة مهمة ودفترا يستحق الدرس بتعمّق في مفهوم وغايات وراهن القصيد النسوي والإبداع الأدبي النسوي في عناصره العامة.

ففي قولها في مستهلّ نصّ "تباريح الأشواق" (ص 53):

من تباريح الأشواق أقطف زهرة الكلمات

مضمخة برحيق الرجاء

من نبع قصيدة... في الروح ما اكتملت معانيها

تبارك أهازيج لقاء

من لظى حنين تغلغل من الوريد إلى الوريد

أصعد فوق تخوم زمن ينبئ بعمر جديد

أتراني خلقت من صدى رجع السنين

يهتف بنشيدي

تخبر الأيام والليالي عنّي

تعدني بلقيا من دنيا تعبق بعطر الورود...

* لتنهيها من خلال سؤال يعيد نسيج المعنى الى ضفة السؤال الآخر الذي يؤكّد ما سبق ذكره في خصوص القيم والمبادئ العامة وبلطف السؤال تقول مسترسلة في تصوير الذات على أنها لبّ القصيدة العاشقة المغرمة حد التيه بالحبّ والحلم. هي ذاتها القصيدة التي... تجعل غربتها أعمق في زمن غير ذي معنى سوى الحيرة والسؤال.

حيرى أنا... أأكون وقعت بيم مطرقة وهم

وسندان ضني عشق الحلم هام في أبعد فضاء؟

يقول لي هازئا "هل من مزيد؟"

يمنيني بأحلى الوعود ثم يتوارى في أفق غيمات

بغيث لا تجود وأنا العطشى لروح قبعت

في روح الروح تحي منها ما همد... في الوجود

وما خمد من وعود

فيا لشوقي لعذب العهود

غدت ذكرى وكأني بها طيف سراب

تلاشى في ضباب الفجر الوليد (.../...)

يقول الدكتور عبد السلام المسدّي في كتابه (النقد والحداثة):

الحداثة في الصياغة (ف) تتحدى بمدى قدرة الأديب على ابتكار أسلوبه الأدائي مما لا يتقيد بأنماط سائدة ولا معايير مطردة، فيخرق سلم المقاييس بما يهتك حواجز النقد فيذعنه إليه وعندئذ يصبح للأديب سلطان على الناقد في حمله على مراجعة ضوابطه كلما تمرد النص الإبداعي على تصنيفات النقد.

*تنظيم حركات وسكنات النسيج في 'المنسج':

هي جملة علاقات تنطلق من أول الحركات المرتبطة بما يمثله الرمز من ارتباط بالشاعرة وعلاقات الحركة والسكون المبثوثة في النصوص والمنطلقة من ذات ونفسية الشاعرة في ثنائياتها المرجعيّة كالميلاد والموت والحبّ والتضاد الدنيوي المعاشي المخنوق بحراك العصر والمصر لتنساب صورها في تشكيل متسلسل أغلب الأحيان وفي أحيان قليلة يجره التنافر نحو جمل متواترة متوترة ذات دلالة جزئيّة في ظاهرها بينما تشكّل وحدة في تنافرها كقولها:

في نصّ "نسيج الروح" (ص 115):

بعثر أوراقك كما تشاء (...)

محبرة بريشة نبض القلب (...)

ذكرى انزوت في ركن الزمن (...) / (...)

أو كقولها في نصّ "للشتاء مواسم" (ص 38)

خيال عقيم أعمى

عندما تقرأ كفيك غجرية خرساء

تنبئ بمواسم شتاء...

تقودها إلى شريان الحياة ذات عمر

شقت طريقها في الوادي وقد فاض

في الفضاء الاسطوري

وبات التعرف على الأرض صعبا (.../...)

إن البحث في دفتر الغرائبيّة وليس التغريب كان أحدى الآليات التي بثت روح التشويق والشدّ للنصوص فالشاعرة تمكنت من توظيفها بشكل جميل وكان نسبيا متناسقا مع المعنى العام وروح النسيج ذاته. فكانت حركاته واحدة من جملة الحركات البانية للحراك التصاعدي للنصوص أو حتى التنازلي في أحيان أخرى كان فيها الدفع الحسّي الرومنسي يتنازل عن التصعيد للحالة النفسية ليبث النص بعض انفراج يتيح للقارئ رفع الضغط والانسياق نحو مزيد القراءة والمتابعة. إنّ نظام الحركات (ليس المقصود بتقسيم النصوص الى حركات بل إلى حركات النصّ في باطنه) كرّس بعض عناصر الحداثة في الشعر المعاصر إلاّ أنّ الشاعرة تعمدت خلط العناصر من خلال التركيز على الموسقة التي تظهر في نظام التفعيلة أو (اللازمة) أو (القافية). إلاّ أنها وفي ذات النص تتخلى عن ترتيبها في نظام موحّد يكرّس التفعيلة كلازمة أو قافية موسيقية للنصّ ويبرز ذلك في عديد النصوص.

لكنّ المجموعة تفضح في ختامها لون حقيقي للمناجاة الذاتية الموضوعية التي يختلط فيها الخاص بالعام في آن هذا الذي سكن روح الشاعرة حتى تغذى على مائدة روحها النقيّة المؤنّثة المشبعة بمؤنثها في توتّره وقلقه واجتماع السؤال مع الواقع الحسّي في روح المجتمع عامة وروح الشاعرة بخاصة بوقائعه ومعوقاته ومؤثثاته الراهنة مع عطر الحلم والأماني وتوسّم القادم الأجمل في سلّة النصّ لتنطلق محلقة في مطلق الشعر بغير ضوابط سوى مبتغى النصّ ومسراه ومرساه الانسيابي الطوعيّ الحداثيّ. وبغير موسيقى تأطّر روح نسيج النصّ وإحداثيات المعاني والصور وهمس الحروف البسيطة الرقيقة والمنغّمة بموسيقى ورنين الصوت الحنون العاطفي الجامح. حيث تقول في نصّ "يا عيد" (ص 135):

على أسوار تلك المدينة النائية

حطّ العيد الرحال... مشى في الحارات وفي الأزقة الضيقة

طرق الأبواب باحثا عن قصيدة

لشاعر عاشق للفرح بحروف الأبجديّة القرمزيّة... القمريّة والشمسيّة

تعانق القمر والأفلاك والكواكب السابحة

نصبت موائد للاحتفال...

تنتظر مجيء من يسترقون بسمة الأيام

لطفل مشرّد في وطن مهجور سلبوه براءته

لرجل شيخ بات يستجدي ودا ورحمة

لامرأة ثكلى لا ترى لحياتها معنى

غير أنها غنت... رقصت على ايقاع الحزن وآلام وغصة

في النفس وارتها وراء الأسوار ترتل الزوايا ترانيم احتفال

موقعة على شدو تلك التسابيح

في نفس مطمئنة يصعد منها الزفير

إلى سماء تبرقعت بغيوم تؤذن بسيل عرم

على مدينة تاهت في زحام الفرح المنشود في الزمان

وفي المكان... (.../...) إلخ...

***

*النصّ والإيقاع في فطرة ووعي نساجة نسيج الروح:

* كتب الأستاذ محمد بن صالح في كتابه (على اليمين الشعراء وعلى اليسار الشعراء) قائلا:

إذا كان الشعر: غريزة في فطرة الإنسان... يعود إلى حبّ الاستطلاع والرغبة في المعرفة والميل إلى الإيقاع والانسجام فكيف: نكلّل رأسه بالغار ونخرجه من المدينة؟ كيف ننكر الشعر والإنسان في البدء غرائز تؤسس كيانه بفعل ما يحدث لها؟ وهل يلغي شعر لأنّه ميل إلى المعرفة؟ وهل فعل الإنسان في كلّ وجوده وعلى اختلاف نشاطاته سوى أنه حاول الاهتداء إلى نوع من الإيقاع إيقاع الوجود وإلى نوع من الانسجام، انسجام المعارف حين تتناقض وانسجام الألوان حين تتنافر؟

ومن خلال ما تقدّم في هذا الشاهد نكتشف أهمّية الإيقاع الذي اختصرته الشاعرة في نظام التفعيلة ذات الايقاع المتقارب والمتباعد في قافيته .وهي بالتالي توزّعها توزيعا متناسقا مع فضاء القصيدة (أو النصّ) وتزيد في تكريس قصيدة التفعيلة بتجاربها من خلال تنويع الارتكاز أي القافية الحرفيّة في النصّ الواحد الذي تستخدم في مقاطعه تفعيلتين مختلفتين كقولها في قصيدة "أنا كلّ النساء" (ص 68): الذي استخدمت فيه (الياء المكسورة ثم تحولت إلى الألف المقصورة والممدودة في همزتها وأيضا اللام في وصال وارتحال الخ...)

أنا الأنثى أختزل الأزمنة

وكلّ النساء

ومن رحم حروفي تشرق شمس همساتي

أولد معها

ينتعش القلب وينصهر كلّي فلا أتيه عن ذاتي

ولا يدميني فراق أو أذى...

ولا ذاك اللقاء المرتجى

أسائلك أتراك كنت لي ذاك المبتغى؟

أتراك صنت عهدا أو حفظت الوفاء

أحتمي فيك وأجد السكنى هلا كنت لي الآمان والدفء

والسلام في الضنى والظمأ

فلا هجر ولا نأيب ولا ارتحال

بل وصال... وصال

حينئذ قد أكون تلك أنا

أولد من حضن زمن اللقاء

أرتشف من الوجد ما يحي أياما في السنين الجرداء

لهيب هيام وعشق حسبته

ولى وانقضى (.../...) إلخ...

***

*هويّة هوى الائتلاف والاختلاف وراهنيه النسيج في روحه{4}

أ) عن أي علاقة يمكن أن نبحث في غرام الشاعرة بالشاعر والأديب الناسك ميخائيل نعيمة الذي اشتعلت عليه في اطروحة الدكتورة خاصتها هذا الناسك المنعزل المتعبّد للجمال والمتأمل في روح الأشياء وصاحب الرصيد المهمّ ومن بين اعلام جماعة المهجر؟:

والذي تميّز بأسلوب يختلف عن أسلوب الأدباء العرب في تلك الفترة؛ حيثُ إنّه كان يحاول أن يتخلص من الزخرفة الاسهاب حتى الحشو، ويميل إلى وصف الأحداث والسرد، ويميل أسلوبه إلى الإيجابية والتفاؤل والبساطة والوضوح والصراحة، ويلاحظ القارئ قدرته على النقاش والإقناع.

* إن الشاعرة مفيدة الجلاصي استثمرت من خلال اطلاعها على دفاتر الشعر ومنها شعراء المهجر وفي طليعتهم (ميخائيل نعيمة) ما يصلح لقصيدتها فهي تتناسق مع عناصر رئيسية تنطلق من عانقت السرد والوصف في نصوص من نسيجها وهي تبثّ أيضا روح التفاؤل والايجابية في مواطن من نسيجها وتعمّدت كتابة بسيطة واضحة وصريحة ومقنعة إلا انها استخدمت الترصيع وبعض الزخرفة اللفظية والتركيبية البلاغيّة في أحيانا مهمة وأسهبت في السرد الى حدّ ما في كثير من الأحيان كان يخدم مصلحة النصّ.كما أنها اتخذت من عناصر أخرى منها حكمة العاشق المتمرّس الخبير في أحيان في متخللات النصّ وفي نصوص برمتها أحينا أخرى. الشيء الذي يحملنا الى تقصّي:

ب) في هندسة اﻟﻤﻌﻨﻰ ومعماريّة المغازي في نصّ شعر مفيدة الجلاصي و ﺩﻻﻟﺔ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺍﻟﺸﻌﺮﻱ في نصوصها "نسيج الروح:

لئن كان الايقاع يقسّم بين داخلي (باطني) عقلي وحسّي فهو أيضا خارجيّ (صوتي مسموع) مقسّم بين صمت وصوت. فإنه لا يبغ اثره في العقل والنفس الاّ اذا ارتبط بهندسة وغزل منسوج منطقيّ حسيّا وعقليا للمعنى وبأسلوب سلس كتبت الشاعرة نصوصها بمعاول الروح مرتكزة على مخاطبة الروح في غالبية المواقع بمنطق هندسيّ للمعنى متفق ومتسق مع بناء النصّ ايقاعيا وأسلوبيا ومنطقيا عقليا. لكنّ الشاعرة في هذه المنسوجات الشعريّة الروحيّة أهملت بعض مكونات كان لابدّ أن نشير إليها والى اهميتها رغم أنها تظهر على أنها شكليّة في ظاهرها.

***

*الهويّة المنسيّة أو المتروكة والمهملة{5}

* ملاحظات مهمّة:

*1* إنّ ما يعاب على الشاعرة عدم استشارة من له درية وخبرة بعالم النشر والطبع تخصيصا وتحديدا فإنّ الكتاب هو مستنسخة (يعني تصوير واستنساخ) وليست طباعة مطبعية مستخرجة من عمل مطبعة. مما شوّه في كثير من الأحيان الكتاب ومحتواه لغياب الحبر الكافي مثلا وضعف الخطّ وهذا شوش بصر وبالتالي ذهن ومتابعة القارئ زمن القراءة.

*2* كما أنّ اختيار الشاعرة لرسم قصائدها وأشعارها في فضاء الكتاب (اختيار منطقة الوسط بالصفحة) ألزمها بالتعامل مع الفضاء وبالتالي جرّد الجمل من معانيها من خلال قصّ الجمل ذات وحدة المعنى إلى جزأين وأكثر مما يشتت أحيانا وأحيان أخرى إمّا يخلط أوراق القارئ عند البحث عن المغزى أو يبعثر أوراق مفاهيم ومرامي القصيدة الحقيقية.

*3* وأخيرا يستوجب الإشارة للشاعرة بالانتباه إلى مسألة تاريخ ومكان كتابة وإنتاج النصّ الشعري وهذا ما يعطي فكرة للمتابع عن المناخ المكان وما يفعله الحيّز الزمان وعناصره العامة والخاصة للمتابع سواء لتطوّر النصّ لدى الشاعرة أو تراجعه أيضا. وهو عنصر غاب في مجموعتها هذه التي بين يدينا.


المختار المختاري 'الزاراتي'




 
 
 

Commentaires


Post: Blog2_Post

Subscribe Form

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Twitter

©2020 par موقع المختار المختاري الزاراتي. Créé avec Wix.com

bottom of page