التسوّل ... وروح التسوّل السياسي بقلم : المختار المختاري الزاراتي
- zaratimoukhi
- 25 mai 2020
- 5 min de lecture

في الخمسينات كان التسوّل في تونس ينعت شعبيا (بضيف ربي) لأنّ المتسوّل لا يبحث عن رزق ومال وإنما كان يبحث عن غذاء يومه وكان يستضاف في سقيفة الدار وبكل ستر (إذ كان منذ خروجه قبيل المغرب يقف عند باب الجامع أو المسجد مرتديا برنسا تغطّي قبعته وجه المتسوّل حتى لا يعرّف بنفسه للعموم لأنّ حالته تعتبر لديه كما للغير على أنها ظرفيّة تدوم حتى إيجاده شغلا ومصدر رزق وليست حالة كسب وتكسّب دائم) لذلك كان يستضاف في السقيفة وتوضع له صفرة خاصة يراعى فيها جانب ما سيحمله لعياله ان كان له عائلة وطيلة مكوثه في السقيفة لا يخرج اليه ولا يلاقيه سوى صاحب البيت فقط لا غير.
وكان نوع آخر من التسوّل الذي يحمل صفات المهنة وهو المتمثّل في (مدبية المقابر) الذين يستنجد بهم زوار القبور حتى يقرؤوا على أرواح موتاهم ما تيسّر من القرآن الكريم بشكل صحيح.وحتى يطلب منه سورا وآيات بعينها يتلوها على روح الميت وكان لقاء جهده يجازا بالخبز والزيت والزيتون ولا يعطى له مقابل مالي قطّ.
لكن انطلق الوضع الجديد عندما سارع البعض لمد أياديهم لجيوبهم حتى يعطوا ما تيسر لهذا القارئ بعد أن نسى أو غفل لسبب ما عن جلب الخبز والزيت والزيتون. وتطوّر هذا الفعل ليبلغ حدّ تعريفة اتفق عليها عن طريق العادة وتطوّر كلّ تكرار معلوم جديد من طرف زائر أو مجموع زوار تعود المتسوّل وجودهم والمبلغ الذي يدفعونه ليصبح حجم ومبلغ ما دفعوه له هو مقياس الزيادة في ما يمنح له من طرف الزوار الآخرين.
كما تطوّر جانب التسوّل الظرفي الذي تحدثنا عنه في البداية عندما بادر لفيف من المصلين للمساهمة ومدّ المساعدة لهذا الواقف على باب الجامع أو المسجد ضنّا منهم أنّ هذا المتسوّل سيشجعه هذا الموقف على الجدّ في تحصيل شغل بينما هم في الحقيقة والواقع فتحوا أمامه باب شغل جديد وهو التسوّل الذي نعرفه اليوم والذي أصبح فيه المتسوّل لا يستحي ولا يخجل من الكشف عن هويته ووجهه وأن يلاحق الناس في كلّ المواقع وأن يتعلل بكلّ العلل والحيل ويقدم أكثر الأدوار إثارة ويستنبط ويبدع أجود وأكثر الحالات استدرارا لعطف وكرم من هم أصلا في حاجة لكرم الدولة أولا لتمنح لهم حقهم الذي يضاهي حجم كدحهم وجهدهم الحقيقي الذي يترجم في الانتاج والناتج العام.
ورغم معرفة المواطن حقيقة هؤلاء المتسولون الذين يمتهنون التسوّل ويحترفونه ويحدثونك كيف يحصلون دخلا خرافيا لذلك هم لا يتخلون عن مهنتهم ولا حتى يمتثلون لقواعد وشروط اللعبة في جانبها الأخلاقي فمنهم من يتجاوز ويفرض حتى حجم المساهمة وحتى أعطيكم مثالا:
ساهم أحدهم لمتسوّل بمبلغ زهيد نسبيا حسب قدرته لكن المتسوّل رفض أول الأمر المبلغ ثم وفي ملا سنة مع المانح وفي ردّ منه قال موجها كلامه للمانح ومنه للعموم "إذا لم يكن لديك ما يكفيك يمكن ان أعطيك أنا" وهذه عيّنة عن حجم الوقاحة ودناءة النفس ولن أتحدث عن كرامة مفقودة أصلا يوم سمح لنفسه بأن يذلّ ذاته ويمدّ يدا سفلى ليتكرم عليه إنسان آخر مثله وهو سليم معافى.
لكن إذا ما علمنا حجم مردود التسوّل فلا نستغرب تنظّم هؤلاء بشكل عائلي وتحديد رقاع جغرافية فيما بينهم توزع على كل متسوّل وعلى كلّ عائلة حتى أن هناك من النسوة من يكترين الأطفال الرضع ويعرضونهم إلى مناخ طبيعي قاس ومضرّ ووضعيات تجلب لهم المرض لقاء استعطاف الناس حتى أنك ربما شاهدت متسوّلة يتغيّر طفلها شكلا ولونا وحجما كلّ فترة زمنيّة قصير اذا ما ركزت ووجهت الاهتمام لوضعيتها.
طبعا هذه الحالة أسست لعقلية اجتماعية مرضيّة أخذت تتسع بتوسّع دائر شروط وجودها من تفقير وتجهيل وتهميش وخصوصا النزوح الاجباري نحو المركز (رغم كلّ مايشاع عن اللامركزية كسياسة تنتهجها الدولة منذ أزمنة بعيدة نسبيا عن حاضرنا والذي يصاحبه هذا الكم الهائل من الشروط السابقة الذكر والتي كرّست بالتوازي مع شروط التشغيل التي أصبحت تستغني عن القيمة العلمية لتحدد شروط اخرى من أمثلة الوشاية والتهيئة للرشوة (والتي تبدأ من الأدنى في سلم الوظيفة لتصل الى أعلى رتبة ومكانة) وهي في رأينا شكل من اشكال التسوّل المبوب في خانة المبادلة بالمصالح.لكن في الحقيقة المصلحة تبادلها مصلحة معنوية مثيلتها وليس مصلحة مادية مالية ذات بعد تسولي.
*المجتمع وروح التسوّل العام.
إنّ روح التسوّل منتشرة في المجتمع بأشكال متعددة منها ما هو مبنيّ على قاعدة الانتهازية كمن يخفي امواله ويلاحق زملائه وأصدقائه الذين يغيرهم بتغير مصادر اموالهم وحجم هذه الاموال ويترصد تحركاتهم ليقحم نفسه وينتهز فرص خجلهم الذي يمنع عنه الطرد أو النهر.ويمنحه مجرد أكل أو شرب أو منافع زائلة بزوال اللحظة.
وهناك أشكال أخرى منها المنسوب الخبث والدهاء كأن يقترض ولا يرجع المبالغ التي تقترضها أو طراوة وحلاوة اللسان الذي يجعل من حضوره في الجلسات واجبا وأن يكرم بمنافع زائلة بزوال اللحظة ضرورة لحضوره ووجوده.وأمراض أخرى ننأ بأنفسنا عن ذكرها لرذالتها.
هذه الروح المتفشية في المجتمع والتي ترجع لسببين التنشئة أولا والتربية الاجتماعية (من الشارع إلى المدرسة) لم تكرّس قيم الشخصية وأخلاقيات الكائن الاجتماعي صاحب الشخصية المكتسبة القويّة الممتلئة والواعية والقادرة والمبدعة إذ أنّ هذه الحالة المرضيّة تستهلك منه الجهد والوقت والجسد في سبيل ابداع وضعيات تسوله والحال أن هذا الجهد لو وجه وجهته الصحيحة وهي الابداع للصالح العام لكنّا أكثر المجتمعات في العالم خلاّقة ومبدعة وذكيّة.
*التسوّل السياسي.
وهنا نجد تأثير هذه الامراض على القمّة (السلطة الحاكمة) والتي هي تربت ونشأة وترعرعت في هذا المحيط وفي هذه البيئة التي تستلهم منها كلّ حلولها وهي كتابها الابداعي وذخيرتها ومستندها الفكري في رسم خطوطها وخطواتها ومناهجها وتكتيكاتها واستراتيجياتها التي تحكم بها ومن خلالها.
فلا يجب أن نحاسبهم لأنهم لم يبدعوا حلولا لأزماتنا الاقتصاديّة بشكل ذاتي وبالاعتماد على انتاج والثروة الذاتيّة وعلى الشخصية الوطنية الواعية والممتلئة والمشحونة والمبدعة الخلاّقة.ولأنه هو ذاته يفتقر لها فانه يسارع ويهرول إلى الخيّرين في العالم ليتسوّل رغيف الشعب وفي كلّ المستويات وكل الخطط السياسية الاقتصادية التي يبرمجها.
ولكن هؤلاء الخيرين لم يعودوا خيرين أبدا. وأطماعهم تتزايد كلّ لحظة (وليس كلّ ليلة كما كان عليه الحال في الخمسينات مثلا). وأصبح كاشفا عن تحوله هذا ووجه الخبيث والإجرامي بكلّ وثوق في ذاته وفي قدوم وهرولة هؤلاء المتسوّلين الحكّام. حتى أنه يعدّ لهم سلفا خطط اقتصادية تجعل منهم عبيد تسولهم وتدفع بهم لبيع وطنهم من خلال عقود وصفقات مهينة ومشروطة تعيد ترتيب وهيكلة شروط بناء قواعد التسوّل الدائم إلى أن ينتج الشعب رقما رمزا يطبقون عليه ومن خلال الصفقات والارتهان المسابق يكون لهم اليد الطولى إمّا بالتآمر عليه في الداخل من خلال مشاريع المتسوّلين التي تزخر بهم ساحات هذه الشعوب أو بالحلّ العسكري الذي تجهّزوا له منذ أزمنة قديمة.
ونجد هنا في باب المعارضة أحزابا تبنى على شخصيات أو تبنيها شخصيات هي متسولة في مناهجها السياسية فهي أولا تتسوّل باسم الشعب لتبني امبراطوريات خاصة ومزارع مالية خاصة بخاصتهم وعلى رأسهم صاحب الحزب وأيضا تتسوّل حتى مقعدا في مجالس تمثّلية الشعب لتمثّل في نهاية طائفتها ورصيدها القيادي صاحب رأسمال الحزب وأيضا تربي قواعدها على مفاهيم التسول في ما يسمونه نشاط حزبي سياسي بمقابل وأيضا تربي عامة فقراء الشعب على تسول بعض مواد اغذية وبعض مصروف جيب ليومين على الأكثر لقاء صوتها الانتخابي ويتبجحون بديمقراطية وشفافية الانتخابات ووعي سياسي عالي لدى منتسبيها ولدى الناخب على السواء.كما الحال بالنسبة لأغلبية تبنى معارضتها على قواعد تسوّل الوجود وتسوّل المكان وقطعة من كعكة السلطة الحاكمة (حتى وإن كانت ثانويّة إذ تكفي صور الاعلاميين ومقالاتهم المدفوعة الاجر الخاص كمتسوّل ؟إعلامي أن تنفخ في صورهم وأن تصنع منهم مشاريع تسوّل عظيمة)ويصبح مشاريع المعارضة لا تعدوا أن تكون بضع شعارات صدح بها 'عاقلا أو غبيّا سيان' في مسيرة أو مظاهرة شعبيّة. فمثلا أنصح شعوب المتسولون السياسيون العقلاء منهم أن يراجعوا الحملات الانتخابية الديمقراطية جدا جدا وخصوصا برامج الاحزاب والشخصيات من نقاطها البرنامجية إلى البرامج المطروحة في منشوراتهم وسيكتشف كم يستحمرونه ويستغبونه لقاء منحه صوته لأحدهم ويزودونه بكم هائل من الفضائح الشخصيّة لتغطية وستر عوراتهم البرنامجية التي هي خليط بين ما استقطعوه من برامج المانح الاموال لهذا المتسوّل أو ذاك وبين شعاراته التي رفعها ليغيّر ما لن يتغير إلاّ إذا ما تغير المجتمع وتربيته وتعليمه بما يكثف نسب وعيه بشخصيته الوطنية وقيمه الانسانية وعقليته المنتجة والمبدعة بمقومات مكتسباته الفكرية وإرثه وتاريخ شعبه الذي لم يكن كذلك في كلّ أطوار أزماته العميقة والسحيقة والخفيفة. بل كان يؤثر على نفسه ولو كانت به خصاصة.
خلاصة القول أنّ ما تبق من مكونات هذه المجتمعات ممن بقي فيهم بعض ارث ترسب في تكوينهم حتى اكتسبوا الشخصيّة القويمة هم في أكثر الحالات تطورا مرضى نفسانيين نتاج الوضع الذي يعيشونه بشكل يومي يحاصر وجودهم كلّه ويهدد حتى أبسط شروط التعايش مع مجتمعه لذلك هو بين وحدة وبين وجوب قسري ومفروض للاختلاط بالناس يخسر عمره ويهدر جهده حتى يفنى في صمت أو يكون مشروع مستشفيات الامراض العصبية والنفسية مدفوعا بالضغط الذي لم يتحمله من ألسنة الأغلبية المتسولة ومن ضميره الذي يعاقبه بالمرض في حالة تنكر لذاته في أي وضعية تفرض عليه ينتج عنها تذلل أو استنقاص من قيمته وشخصيته.وأصبح هو المرض والحالة الشاذة المطروحة للتندر والتهكم وحتى المحاربة.
لذلك أنصح بالمنفى الاختياري في فضاء يسمح بالعيش كإنسان كامل معتد بوجوده وبقيمه وشخصيته حتى يمكن له أن يعيش ويؤثث للإنسانية ارثا ويؤسس لغد أجمل.
تونس 28/01/2015
Comments