أقلومزاراتونسام'الزارات' (المختار المختاري 'الزاراتي')
- zaratimoukhi
- 18 juil. 2022
- 42 min de lecture

تعدّ 9125 نسمة حسب آخر إحصاء قامت به الدّولة سنة 2014 وقبل التّغير الحاصل على خارطتها التّرابية. والتي تمنحها المزيد من السكّان بعيد إضافة منطقة العلايا وسحب منطقة الزّركين التي أصبحت راجعة بالنظر لمشروع بلدية كتّانة. وهي منطقة بلديّة مذ صدور القرار المؤرّخ في 08/04/1985 تحت عدد 574. بلديّة الزارات مصنّفة الرّابعة على مستوى بلديّات الجمهوريّة من حيث تصنيف الشّفافية. ويحدها من الشّرق البحر الأبيض المتوسط ومن الغرب منطقة العرقوب ومن الشّمال منطقة الزّركين ومن الجنوب طريق جربة. وتمسح مساحتها 118 كلم مربّع على خليج قابس التي تبعدها ب42 كلم. وتتميّز بواحاتها النّخلية التي تطوّقها لتنفتح على البحر حيث ميناء الصّيد البحري.
يعتبر طقسها ومناخها من أكثر المناخات التي تتيح للحركة السّياحية عموما. والتّرفيهية الشبابيّة ملائمة وتميّزا. بتنوع طبيعيتها التي جمعت من سحر المناظر والبقاع والمشاهد ما يكوّن عددا من المميزات الغير مستثمرة من طرف الدّولة نهائيا رغم محاولات أهلها للعمل على تطويرها والاستثمار فيها على قلّة مواردهم إن لم نقل انعدامها إذا ما قرنناها بغيرها من المناطق التي لا يتوفر فيها الحد الأدنى من الّذي يتوفّر في هذه المنطقة. فمنطقة الزّارات واحة بحريّة فريدة في العالم. وشاطئ نظيف وبعيد عن كلّ تفاعلات غير طبيعية. وبها محميّة طبيعيّة. وعين مياه معدنيّة طبيّة. وتنوّع بيئي من واحات ذات تنوّع غراسه من زيتون ومشمش ورمان وتين وغيره. ومن الممكن استثمار الفضاء المتوفر داخل هذه الواحات لتكون مناطق تنزه وترفيه.
كما للميناء البحريّ مجالات عدة لتنويع الاستثمار السّياحي والتّرفيهي. أضف إليه مناطق التّخييم والمبيت الشّبابي البحري. والأهمّ من كلّ ذلك أنها من أكثر المناطق التي ينهب منها الآثار لغياب. لا فقط رّقابة الدولة على الموجود الظّاهر بل وانعدام كلّي للبحث والمسح والحفريّات لتعرية مخزون مهمّ من الآثار التي سنورد في يلي شذرات للعمق التاريخيّ للمنطقة. ليرتع النهّابون والحفريات العشوائيّة التي هي بارزة وظاهرة للعيان في كامل المناطق التي يعرفها سرّاق ومتاجري الأثريات. بينما تغيب عن الدولة ممثلة في دائرة الاختصاص *إدارة الآثار*.
ومن الدلائل والمؤشّرات على هذا العمق التّاريخي ما كشفت عنه السّيول إثر مطر موسميّّ كثيف تلك الّلوحة الفسيفسائيّة التي ظهرت بعد هطول كميات كبيرة من مياه الأمطار سنة 2011/2012 في المنطقة الواقعة أسفل برج تريوليه في اتجاه البحر. منطقة الزّارات حظيت باهتمام غربي ومنها مشروع أمريكي أحدث بئر ارتوازية خصص لإدامة الحياة الطبيعيّة والفلاحيّة للغابة القديمة البحريّة الفريدة. والّتي تمثّل من أندر الواحات البحريّة في العالم إن لم نقل الوحيدة المثمرة والمنتجة. وخصوصا منها الباقية على حالتها الطبيعيّة البريئة والبنك العالمي للّتنمية البيئيّة الّذي يقوم بدعم ولو بسيط وليس في الحجم المتفق عليه (نتيجة ما يحيط بمكتبه في تونس من عديد التساؤلات والغموض في التسييّر وتوزيع الحصص المتّفق عليها مسبقا والمرصودة من طرف البنك الأم. وذلك لتغطية مشاكلهم وثغراتهم في مناطق أخرى مدرجة ضمن ذات المشروع للبنك الدّولي.) ومن الدعم الذي وصل كان أن أنجزت جمعيات للعمل الثقافي والمدني وعلى رأسها 'جمعية أحباء دار الشباب بالزّارات' مهرجان الواحة بالزارات في نسختيه الأولى والثانية وأيضا الثالثة. كل هذا في غياب الدّولة التّونسية بكافة أذرعها. وزاراتها الغائبة وأحزابها التي لا نرى لها وجود إلا في مواسم الانتخابات. والحال أن نسبة الشّباب في ازدياد ونسبة منهم وجدت ضالتها في الهجرة السريّة.
لذلك آثرنا أن نقدّم هذا العمل (الدّليل) ليكون مدخلا ومستندا لدخول أرض الزّارات من بابها الكبير. واكتشاف هذه الأرض المنسيّة رغم كلّ ما فيها وما تسهم به في الاقتصاد الوطني وما يمكن أن تضيفه له ولغيره من ما يؤثث للوطن مزيدا من فرص التّطور والبناء والاستثمار. ومن طبائع أهلها المحافظة والتشبّث بالعادات والتقاليد والانفتاح على الآخر في ثنائيّة جامعة بين الأصالة والمعاصرة ولكن هذه المعاصر لا تتضارب وقيم الأخلاق والعادات والمحافظة على التماسك العائلي لكنها لا تغيّب شبابها وتحرمهم من العيش بما يلائم زمانهم ومتطلباته.
وهم في ذلك كباقي أهل الجنوب التونسي الذي لا يتخلّى مطلقا عن قيمه وأخلاقياته وروابطه وأيضا يفتح بابه بشهامة وكرم المضيف لكلّ زائر يقاسمه الرّغيف بقلب دافئ وروح سعيدة.
هكذا دأبوا وتربوا وربّوا أجيالهم ومازالوا كذلك على سليقتهم وطبيعتهم وطبائعهم. يعشقون الفروسيّة ويتغنون بها ويعشقون الأرض ويتمسّكون بها ويعشقون البحر وركوب المخاطر ولا يردّهم عن حماية وطنهم وأرضهم وعرضهم المنون.
والزّارات قطعة من جنان قابس وقابس عبر التاريخ هي:
'تكاباس'
*قابس*
الأطلس الأثري للبلاد التونسية، خارطة 'ضواحي قابس' وهي حصيلة أعمال ميدانية قام بها سنة 1907 الملازمون برتلميbarthelemy)) وكوليني (colinet) وجوبيت (jobit) وفيني (vignes). وقد أحصى الأطلس 73 موقعا قديما في الجهة المعنية بالأمر وقد تجاوزت الخارطة الحدود المعهودة نحو الشمال فأصبحت تشمل المطوية ووذرف، وذلك خلافا لخارطة قابس بمقياس 50.000/1. خارطة مارث بمقياس 100.000/1 الوثيقة LXXXIII التي تمّ ضبطها سنة 1928 انطلاقا من نفس التنقيبات المخصصة للأطلس الأثري للبلاد التونسية. ولقد رافقتنا هذه الوثيقة أثناء تنقيبنا بمنطقتي مارث وكتانة وكانت أدرجت بها على حدّ سواء الآثار الرومانية ( R.R) والآثار الجلموديّة( R.M) والآثار العربية (R.A). المذكّرة 23 لأطلس ما قبل التاريخ للبلاد التونسية وهو يستند على إسقاط خرائطي بمقياس 20.000/1 لمجال يمتدّ من وراء واد العكاريت إلى جزيرة جربة، غير أنه اتضح أنّ هذه الوثيقة، ذات القيمة الوثائقية الرفيعة لا يمكن للأسف اعتمادها على عين المكان لأنها قليلة الدقّة *"فعلى سبيل المثال تمّ إدراج الموقع 32 'سهل الأعراض' (هكذا) بصفة غامضة 'بين قابس وجبال مطماطة وبني زلتن' وقد لاحظ واضعو البيان بأنفسهم قلّة الدقة هذه. وبالإضافة إلى ذلك ففي أغلب الحالات يقتصر البيان على سرد معطيات الحفريات السابقة بدون تعرّض إلى أي تعقيب."* ولكن نظرا أنّ عصور ما قبل التاريخ ليست من اختصاصنا فإننا لا محالة وجدنا بهذه الوثيقة معلومات ساعدتنا كثيرا أثناء بحوثنا. لذا وسعيا وراء الشمولية أضفنا إلى نتقيباتنا بحثا بيبليوغرافيا حول جهة قابس. وقد أفادتنا الوثائق المكتوبة رغم قلّتها لفهم جانب الكتابة المنقوشة وبالفعل فإنّ بعض المذكرات التي حررت في بداية القرن تشير إلى اكتشاف منقوشة تهم كامل الجهة يعني قابس ومارث وكتانة وكوتين بمقياس 50.000/1 ويتعلق الأمر بكلمات إهداء وكتابات فخريّة ونصب أميال وقد اضمحل جلها اليوم للأسف... كما ساعدتنا هذه الكتابات في بعض الحالات على اكتشاف مواقع لم تدرج لا بالأطلس الأثري للبلاد التونسية ولا بالوثائق الخرائطية الأخرى... ون المهم الإشارة أنّ مواقع مهمة بقيت تنتظر العوامل الخارجية الطارئة 'الطبيعية أو البشرية'من قبيل فيضانات أو تعرية وانجراف أو من قبيل أنشطة بشرية من حفر عشوائي بحثا عن كنوز متخيلة وهي في الواقع نتيجة بعض القي التي عراها العوامل الطبيعية والتي مثلت في مخيلة الأهالي على أنها كنوز مدفونة وهي في الحقيقة أثار ولقيات تاريخية عراتها عوامل الطبيعة من فترة إلى أخرى.
ومن بين العوامل بعض الأشغال كبناء البيوت أو الأشغال الفلاحية وشق الطرق. ومن المهمّ الإشارة أن المصالح المتخصصة كانت على علم بأنّ مناطق عدة بجهة قابس مبوبة تاريخيا ضمن حقب قديمة وأهمها ما قبل الإسلام كما ثمة مواقع تعود لما قبل التاريخ "الإنسان البدائي" ورغم أن لجنة إعداد خارطة تونس الأثرية قد أوصت بمناطق تستوجب الانطلاق والشروع في البحث الميداني الحفري منذ التسعينات إلا أنه لم يتمّ ذلك حتى يوم الناس هذا. ولقد شرعت مثلا في بعث مشروع لدراسة منوغرافية جهوية والقيام بدراسة النشاط الزيتي القديم بالجهة في العصور القديمة 'وقد نشر هذا العمل بمجلة 'أفريكا' XV1997.
تقع المنطقة الجغرافية الامتداد الجغرافي لمدينة تكابيس التاريخية. (مارث ومنها المنطقة الأثرية التاريخية التي تمتد من كتانة مرورا عبر الزركينوليماية بلوغا الزارات ومتجهة على مسار الخطّ الساحلي عبر لعلايا نحو (جرجيس – جربة) وهو ما سمي تاريخيا للمنطقة برمتها 'خليج سرت الصغرى').
وهي عبارة عن طريق ساحلي يتعرج بتعرج الخليج نحو الداخل لينفرج خارجا في نقطتي انطلاقه ومنتهاه.وهي أيضا الطريق التجارية الاقتصادية والعسكريّة البرية والبحرية الرابطة بين الخليجين "سرت الكبرى ومركزها 'ليبتوسماغنا' – لبدة – مدينة الإمبراطور النصف عربي 'سيبتيموسسيفيروس' الواقعة ضمن خارطة خليج سيرت الكبرى وقرطاج مرورا بتكابيس مركز التجارة الكبير والمحوري بخليج سيرت الصغرى.
وتجمع هذا الطريق بين خطّ بري ومراكز بحريّة أهمها موقع الزارات مثلما تدل على ذلك المنارة البحرية التي لم يبق منها سوى موقعها وخبرها الذي لا يزال يتداول على الألسن بعفوية تحمل رمزية الحاضر ولا تنتبه لحقيقتها التاريخية القديمة جدا.
*أقلوم زاراتونسام*
agellum-zarathensum
- أقلوم زاراتونسام -
*ميراث الواحة والأيام*
ـ ورقة رقم 1 ـ
ـ الزارات *واسمها التاريخي أقلوم زاراتتونسوم* ترسم حدودها الواحات الشاسعة جنوبا وشرقا البحر باتساع مداه الرحب وشمالا طريق الميناء الآن.
*وهذه الآثار الموجودة بمنطقتي المعمورة وشط العوامر وغيرهما. كما أثبتت عمليات المسح الأثري وجود أكثر من 150 موقعا أثريا بالجهة يدلّ نمطها المعماري وحجارتها الضخمة على انتمائها لحضارات مختلفة منها البونيقية التي ارتبطت بالسواحل والحضارات الرومانية التي ارتبطت بالسهول والأرض الخصبة.
كما نلاحظ وجود بعض الآثار الرومانية وأنت مار من جهة الزارات منها ما يوجد جنوب الواحة قرب سبخة وهي تنتمي الى مركز عمراني غابر يوافق موقعها واحة الزارات fulgurita فإنها هنالك محطة رومانية قديمة تسمى نسبة إلى peutinger حسب دليل العالم الأثري الروماني ويحدد الموقع الأثري للمدينة الحقيقية المعروفة antonin والتي تربطها بمدينة تكابيس 'قابس' *وكتب عنها العديد من الرحالة عربا وإفرنج ومنهم نذكر ما كتبه التيجاني في رحلته ص 119 من كتابه (الزارات قرية ذات نخيل كثير وماء غزير ينبع من عين حمئة وقد اجتمعت لدى منبعها بركة ماء متسعة القطر بعيدة القعر. والرحالة يتحدث عن عين الزارات الحمئة التي حرارة مياهها تقدّر بدرجة (38.5 c) وهي من نوع العيون chlorurée تزود حماما وبعض الأعمال thermale في القرية. ومن هذه القرية كان الابتداء بسلوك منازل البربر المستمسكين بمذهب الخوارج المستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وهذا المذهب هو الغالب على جميع البقاع التي بين قابس وطرابلس وخصوصا أهل الساحل منهم وأهلها البربر والمتمسكين بمذهب الخوارج وهذا المذهب هو الغالب انذاك على جميع البقاع التي بين قابس وطرابلس وخصوصا أهل الساحل البحري منهم.) أما الكاتبان fernand lafitte و jean servonnet فقد دونا سنة 1888 في كتابهما خليج قابس ص 131 و 132 يذكران الزارات .(هي قرية يسكنها بين 400 و 500 نسمة من أصل بربري وتشبه حدائقها حدائق قابس وبها نخيل كثير وأشجار مثمرة تسقيها مياه متدفقة من عين سخية تصب في بركة كبيرة قبل أن تتفرع إلى سواقي باتجاه الواحة ولما يأتي زائر بين العصر والمغرب في فصل الصيف خصوصا يشاهد مظاهر حياة يومية فريدة لهذي القرية عند نقطة الماء هذه. ولم يبقى الأصل العرقي نقي ينتسب لعرق بعينه فتداخل الدماء عن طريق التزاوج والاختلاط جعل من أهل القرية مزيج فريد ونوعي فهو البري العربي في آن ومن خلال عاداتها وتقاليدها وتفاصيل الحياة فيها تكتشف هذا التمازج في أبهى وأرقى مظاهره الإنسانية المنفتحة كالبحر والمفتوحة على الكرم والخلق كالنخل وفيهم فعل الاعتقاد قوي الحضور نتاج واضح للمطلق الرحب الذي يحميه الاعتقاد من التيه والزيغ والتحريف في قيم الاجتماع والتعايش..
(ص 177 من كتاب قابس عبر التاريخ لبلقاسم بن محمد بن جراد)
*قرية الزارات قرية قديمة ويتبين ذلك من الآثار التي اكتشفت قرب 'هنشير تريولي' وقد تحدثنا عنها عندما تحدثنا عن قابس قبل التاريخ وهي تقع على البحر وبها ميناء هام وينتج بحرها كثيرا من أنواع الأسماك واشتهرت خصوصا بصيد ألتن وجراد البحر والأصداف البحريّة وهي بالإضافة إلى ذلك واحة بحريّة هامة (...) كما وصفها الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق (ص 128) فقال: "هي قصور ثلاثة تلي جزيرة جربة وبينهما عشرون ميلا"
* وقد كتب الدكتور مختار العياشي أحد أبناء الزارات المتخصّص في علم التاريخ ما نختصر منه حول الحقبة الرومانيّة بالزارات:
* الآثار الرومانيّة لازالت موجودة شاهدة على أيامهم في عديد المواقع في القرية وما يجاورها في كلّ (من البلاد القديمة والزارات الجديدة الحالية.) و أيضا على مقربة من قرية الزارات مثل موقع 'المديّنة'. وهي تدلّ بوضوح تقريبي ونسبي على وجود موقع سكني استقرّ فيه عدد من الرومان من عصر (تكابيس القديمة). خصوصا وأن هذا الموقع يمتاز بمميزات طبيعية جعلت منه موقعا عسكريا مهما ورئيسيا في محيطه. فهو يشرف على كامل السهل الممتد من جبال مطماطة وغرب مارث إلى البحر في الزارات. منطقة استراتيجية هامة جدا للمرور البري بين حاجزين (المرتفعات الجبلية + البحر) ويتم منه مراقبة القبائل التي كانت في صراع دائم ومستمرّ مع الرومان ولا تخضع إلى سلطتهم (من قبائل البربر). كما أن البحر مثل ليس فقط بالنسبة للزارات بل وعلى كامل الشريط الساحلي لتكابيس تقريبا مساحة تنفس تجاري وعسكري للرومان فتوجد أماكن لتصنيع الخزف وطهيه ومن ثمة تصديره وبيعه خارج (أفريكا = إفريقيّة) ومن المراجع التي تحدثت عن الزارات: كتاب محمد المرزوقي 'قابس جنة الدنيا' والذي تناول فيه صاحبه جهة مارث والزارات تحديدا ضمن ذكره لأهم مواقع قابس التاريخية والحاضرة في زمانه. كتاب لمؤرّخ فرنسي تناول فيه موضوع (المصالح الأوربية في الجنوب التونسي بين سنوات 1869 / 1881)
Les intérêts européens dans le sud tunisien « 1869 / 1881 »
أي منذ قبيل دخول الحماية وحتى سنة انتصابها بتونس. كذلك كتاب رحلة التيجاني الشهيرة. وكتاب رحلة المبشر ايفيلد. ومن المصادر المكتوبة التي عثر عليها بأرشيف الدولة التونسية (مخطوطات) تتمثل في (الحجايج) وما كان من أرشيف سنوات انتصاب الحماية. 'خصوصا ما يتعلّق بالبيع والشراء والشكاوى والتظلمات والمراسلات من عرائض (بتوقيعات جماعيّة) وبرقيات (ونصوص برقيات). هذا عدى الموروث الشفوي والذي تتميز به التجمعات الفلاحية الرعوية حال أهل الزارات من قدم. ومنه التعاقد 'بالكلمة' لما للكلمة من قيمة أخلاقيّة لدى أهل تونس والجنوب تخصيصا وتمس صاحبها في رجولته اذا ما خالفها أو أخلّ حتى ببعض تفاصيلها وتأويلاتها.
مقرّ بلديّة الزارات
هذه الزارات القديمة أما الزّارات الجديدة فهي عبارة عن مدينة تحتوي على مساكن عديدة متطورة اتسع عمرانها خصوصا بعد بعث المدرسة الإعدادية بها سنة 1986 ويدرس تلاميذها في السابق أما في قابس أو في مارث مركز المعتمديّة. أما مدرستها الابتدائيّة فهي قديمة جدا. وسكانها أغلبهم من العرب ومنهم.
1- عرش أولاد منصور ومنهم (كرو) '(الأكراو).
2- عرش البطّايبة (بوطيب)
3- عرش القراوة (القروي) وهم في الأصل يرجعون إلى القيروان.
4- عرش الحجاج ومنهم أولاد محمد وأولاد المبروك وهم يرجعون في الأصل إلى ليبيا.
* وقد كتب أحمد اللغماني في ما يشبه المذكّرات عن تاريخ الزّارات وأبرز عروشها موضّحا لأهل قصر بورقيبة وله شخصيّا منطقة الزّارات قائلا في ورقات عنونها:
'أنا وزماني'
*أيها القارئ العزيز:
تخرج من مدينة قابس متجها إلى الجنوب وتسير ثلاثين ميلا مارّا بقرى 'تبلبو' و 'كتانة' و 'الزركين'. وقبل أن تصل قرية مارث تعرض لك على اليمين لافتة تدعوك إلى الشمال لتصل إلى قرية الزارات فتنعطف مع الطريق وتسير في الخلاء بضعة أميال فتستقبلك بساتين غنّاء تتوسط بعضها دور متواضعة فتشعر بشيء من الأنس من وحشة ثقيلة من انضباط العراء. تلك هيبساتين 'السدريّة' الشمالية. أمّا 'السدريّة' الجنوبية فتتاخم المسرب القديم الذي يصل بك إلى مارث والذي عزفت العربات اليوم عن سلوكه منذ أنشئت الطريق الجديدة في فجر الاستقلال. وعند رجوعي إلى الزارات بعد غيبة طويلة وقفت على تلك الأطلال وقدرت ما كان لذلك الوقوف على الأطلال من شعور بالمأساة عند الشاعر العربي القديم. كما قدّرت مشاعر منيستخف بتجسيم الحنين وتصوير لوعة الفراق لأن الاستخفاف بفقدان الدّار هو استخفاف سخيف.
وتدخل القرية من الطريق الآتي من مارث وإن شئت تدخلها من المسارب الواردة من الشمال، وقد تدخلها أيضا من الجنوب. أمّا من الشرق فلا يدخلها إلاّ نسيم البحر الذي يفصلها عنها ميلان اثنان. وإذا دخلتها من الغرب فيتلقاك وليّها الصالح "سيدي أحمد البكاي" رابضا على ربوة صغيرة في مدخل البلدة مطلا على الوادي ومن ورائه الواحة أمّا إذا دخلتها من جهة الشرق فيقبلك حارس يقظ كما يحرس الأسد عرينه ولعلّ ربصته هذه هي التيأوحت إلى أهل القرية بهذا اللقب الرائع الذي سمّوه "صيد الواد" أي: أسد الوادي. ومن يدخل القرية من الغرب بعد أن يستأذن "صيد الواد" سالكا شارعا وحيدا ينساب مع الوادي عن يمين فاصلا أحياء القرية عن بساتينها يجول جولته الأولى. ثم تقع على متجر 'محمد الذراوي' بائع الشاي، والسكر، والتبغ، و'الذراوي' هذا له مع ذلك وظيفة مرموقة أكاد أقول مقدسة، فهو سادن سيدي "أحمد البكاي" يقوم على تنظيف ضريحه، وإيقاد الشموع حول تابوته، ويذود الأطفال عن الدخول إلى حرمه المهيب ومن ورائه الواحة فهو حارس يقظ كما يحرس "صيد الواد" من عبث الأطفال. وأنت منحدر مع الشارع يلفت نظرك متجر صغير مشقق الباب والجدران، ذلك هو متجر "الغزال". ولهذا الرجل قصّة تروى بشيء من الإعجاب والعجب معا. "الغزال" – وهو من 'أولاد الأحول' – فضل الاستقرار. في حيّ "أولاد منصور" المناوي ل"أولاد الأحول" وحسنت عشرته لهم وطال مقامه بينهم فأحبوه كما أحبّهم. وعندما كبر أبناؤه هجر حي أولاد منصور وعاد إلى حيّه، ولعل لأبنائه أثرا في هذا النزوح من حيّ الأحلاف إلى حيّالأنساب. هذا الرجل – على كبر سنّه – لم يزل على بشاشته ولطفه وعذوبة منطقه وكلّما رجعت إلى القرية حرصت إلى رؤيته، والأنس بحديثه.
وتواصل انحدارك في الشارع فتمرّ بزقاق "اللغامنه" وهم بطن من بطون "أولاد منصور" وزقاق "أولاد بطيّب" وأولاد "الدحامنه" وفي الحي براح يسمى "فمّ القصر" لعلّ هذا الاسم يشير إلى أن الرومان سكنوا الزارات، وتشهد على ذلك صخرة أخرى أعظم من "فم القصر" وأنّ "فمّ القصر" كان موضعا لقصر من قصور الرومان. والله أعلم. وفي فمّ القصر هذا يوجد متجر "بن كريّم" وهو منتدى يجتمع فيه أعيان "أولاد منصور" ويقوم عليه شيخ "طويل القامة، نحيف البنية لا يرى إلاّ باسما بشوشا، يعجبك منظره في هندامه الذي يلتف فيه، و"فرملته" و"سروال" فضفاض وسلسلة فضّية تتدلى على "فرملته" وجيب كبير يحفظ فيه محفظة صنعت من الجلد الأحمر "الفيلالي".وأمام متجر "بن كريم" يقابلك جدار المسجد مطليا بالكلس الأبيض. أمّا بابه فلا يظهر لك إلاّ إذا انعطفت مع الزقاق إلى اليسار من جهة الشمال. تلك هي الزارات 'القديمة' التي حصدتها الحرب الثانية ولم يبق منها إلا وليّها الصالح "سيدي أحمد البكاي" وصخرة عظيمة في وسطها تسمى "فمّ القصر" لعلّها تشير إلى أنها كانت لقصر من قصور الرومانية كما أسلفت.
*2*
لا أعلم ولا أحد يعلم للزارات تاريخا واضحا فشأنها في ذلك شأن وليّها "سيدي أحمد البكاي".
أما أبناء الزارات فكيف لي أن أصفهم لك وأنا واحد منهم؟ ما يكون حال قوم نشأوا على الحرمان وتطبعوا به وألفوا الشظف ورضوا عنه فكانت القناعة أولى فضائلهم؟ جاهدوا الأرض فاقتلعوا منها أقلّ ممّا يرضي الحاجة واكتفوا به، ذلك أنّ حاجتهم طوعا إرادتهم: يمدّونها عند الوجد ويشدّونها عند الإملاق. فمنهم "الثريّ" بالقياس إلى مفهوم الثروة عندهم وهو امتلاكبستان أو غابتين في الواحة أو مزرعتين في البادية وقطيع من الغنم ورأس أو رأسين من الإبل.
وأمّا المعدمون – وما أكثرهم – فلا يبيتون على الطّوى ذلك أن للقرية نظاما في التضامن قلّ أن يوجد له مثيل في الجهة توارثوه جيلا عن جيل فكان من ثوابت خصالهم، فهم – على ما كانوا عليه من حاجة – مكتفون بما قسم الله لهم، منغلقون على أنفسهم تتلخّص الدنيا عندهم وتختصر، فهي تقف عند سوادهم وراء ضريح "صيد الواد" غربا وعند شاطئ البحر شرقا وسور المدرسة شمالا وعند منتهى الواحة جنوبا: ذلك كان عالمهم وإنه ليتسع لعالمهم ولا يضيق بآلامهم.
ينقسم الخضوع والنفوذ في الزارات إلى حيين يقتسمان جغرافية القرية هما "أولاد منصور" ومن يليهم لهم الشطر الغربي من القرية، وحيّ "أولاد الأحول" ومن يليهم ولهم الشطر الشرقي. ظلّ هذان الحيّان يتنازعان النفوذ جيلا بعد جيل. وربّما لجأ أحدهما إلى استظهار "المستعمر" على مناوئه والاستعانة ب"المعمّرترييولي" triolet الذي قدم إلى الزارات أوائل القرن الماضي وامتلك أخصب المزارع المتاخمة للشاطئ، وابتنىله قصرا فخما تعلوه منارة غريبة يسميه أهل القرية 'برج المعمّر' وأثناء الحرب الثانية كثيرا ما كان أهل القرية يشاهدون إشارات ضوئيّة ترسلها المنارة ليلا. وبعد أن حصلت بلادنا على استقلالها أمّمت برج "المعمّر" وأصبح ذلك البرج معملا عصريا لتصبير السمك، أحدثه أحد شبان الزارات الناشطين رحمه الله. ولأطوف بك أيضا – أيها القارئ العزيز – هذين الحيين وأعرفك بأولاد منصور وأولاد الأحول وقد التفّ حولهما حلفاء وتفرّعوا إلى فروع وغصون: فتفرّع في حيّ أولاد منصور (اللغامنه) وانحازت إليهم أحياء أخرى أهمّها 'المعاييف' و'البطاينة' و 'الدحامنه' وكلّ هذه الفسيفساء من العروش يسكنون الجهة الفوقيّة من القرية، وظلّت هذه الفسيفساء مقيمة في الجهة العلويّة. أمّا 'أولاد الأحول' فكانوا يضمون: 'أولاد عمّار' و'أولاد المخاتير' و'أولاد الحجّاج' و'أولاد عيّاد' وغيرهم. وهؤلاء كلّهم مقيمون في الجهة التحتيّة وظلت هذه الفسيفساء القبلية مقيمة على نسق من الحياة لها أخلاقها وتقاليدها وقوانينها، وهي إن اتخذت مظاهر عصرية وأشكالا حضارية لا تزال تخضع لدستور"العشيرة" وقانون "العصبية" في كلّ شؤون حياتها. أمّا إذا طرأ طارئ من خارج الزارات يريد بها، شرّا فإن هذه الأحياء المتنافرة تلتفّ وتلتحم فتكون واحدة على الدّخيل أو المغير، وهكذا تنطبق عليها العبارة: المأثرة "أنا وأخي على ابن عمّي، أنا وابن عمّي على الدخيل".
وحدث أن تصاهر الحيّان المتنافسان وأنجبا من الأولاد من له خول في الحي المناوئ، وحين يبلغ الولد لا يرى ضيرا في التعصب إلى حيّ أبيه ونصرة أعمامه على أخواله. والزوجة من الحيّ المنافس تضلّ هي أيضا على ولائها ولحيّها وانحيازها الصامت إليه. وإذا ألمّ بها مرض وأحست بقرب أجلها فقد يحدث أن تعود إلى أهلها لتقبر في مقبرتهم. عرفت هذا كلّه من قريتي وأنا صبي وعشته كما عاشه أترابي، واغتربت بي الأعوام عن الزارات وأهلها في فجر شبابي فتباعدت زيارتي لها فامّحت – أو كادت – ميولي لتلك العصبيّة القبليّة. وعدت إلى الزارات وتقاربت زياراتي لها وتطاولت فإذا تلك العصبية لم تفقد شيئا من شحنائها، ولم يزدها ازدهار القرية إلا شراسة. و إلى هنا بيّنت موقع الزارات: شوارعها ومتاجرها، وساكنيها واتصالهم ببعضهم في "أحيائهم" المنفصلة. والزارات هذه هي الزارات القديمة التي حطمتها الحرب الأخيرة ولم يبق منها الاّ "صيد الواد": سيدي أحمد البكاي. والصخرة العظيمة التي استنتجت منها أنّ الزارات ربّما قد كان لها شأن في العهد الروماني. والمكان الذي سمّوه "فمّ القصر" يشير إلى أنه كان موضعا لقصر من القصور الرومانية. "والله أعلم".
(3)
نشأت في حجر لا أدري هل عرف غيري من الأطفال حجرا في عطفه وحنانه وتقلّبت في حضن مازلت إلى يومنا هذا أحسّ "دفأه" وحنانه وكلّما استذكرته والتصقت به وعيت تمام الوعي ما كانت تسرّ به إليّ خفقاته. وحاضنتي في كلّ هذا هي جدتي للأمّ "أمّي عزيزة" كما كنت أدعوها. ذلك لأنّي كنت في كفالة جدّي وان لم أكن يتيما. لم يكن والدي – مثل سائر وجهاء القرية –يكتفي لزوجة واحدة. فقد تزوج والدي أوّل زوجة بفتاة من 'اللغامنه' وأنجب منها ثلاثة أبناء وبنتا. ثمّ بدا له أن يخطب امرأة من "أولادالأحول" ذلك الحيّ المناوئ لحيّنا وأنجبت له طفلا هو 'ضوء' ثمّ فارقها وتزوّج بنت عمّ له توفّي زوجها 'الكروي' وكنت أنا ثمرة هذا الزواج. ثمّ فارق أمّي واسترجع بنت 'الأحول'، كما كانت تسمّيها 'اللغمانه'. جرى كلّ هذا وزوجة والدي الأولى لم تبرح بيتها، عائشة مع أبنائها الأربعة صابرة مصابرة. كلّ هذا حدّثتني به أمّي عزيزة جدتي: قالت لقد خرجت من بيت أبيك وأنت جنين. وكانت هنا في هذه السقيفة التي نجلس عليها الآن. وكان ذلك في ليالي الربيع القلائلة التي إذا عصفت جنّت. وتزوّجت أمّي من حيّ أولاد عيّاد الذين كانوا من حلفاء أبناء الأحول. فكأنها أرادت أن تحدث معادلة لزواج والدي من الحيّ المناوئ لحيّنا. كانت أمّي تأتيني إلى بيت جدّي في المواسم لتراني، وكنت ألقى منها ما يلقى الأبناء من أمهاتهم، لكنّها – رحمها الله –لم تكن تلقى منّي ما تلقاه جدّتي من الميل. فكانت تتألّم من ذلك في صمت.
أمّا والدي فلم أكن أراه إلاّ في المواسم فكنت أذهب إليه في تلك المناسبات فتتلقاني زوجته بنت الأحول بكلّ حفاوة وتبجيل فلم تكن تدع شيئا ممّا يستميل الأطفال إلاّ أحضرته لي فأقضّي اليوم مكرّما مبجلا. غير أنّ ذلك كان تكريما الضيف وتبجيله، حتى إذا قربت الشمس الغروب عدت إلى جدّتي.
وأستجدّ ذاكرتي لأرى في طفولتي الواعية صورة واحدة من الإهمال واللامبالاة فلا أرى شيئا من ذلك. بل كنت أمرح بين جدتي وجدّي ولا أرى إلاّ السعادة والتدليل. فكنت سيّد البيت حتى عند أخوالي وأعمامي. وأدركت –في ما بعد – هذه المفارقة الغريبة التي كانت تسمّى "حياتي".
(4)
يقع مسجد القرية في الجهة الفوقيّة بين متجر "بن كريّم" ومتجر "أحمد المبروك" له بابان يفتحان على الشمال أحدهما يفضي بالداخل إلى باحة صغيرة. وثانيهما يفتح مباشرة على قاعة الصلاة. إذا دخلت المسجد من باب الباحة وجدت على يمينك قاعة الصلاة وعلى شمالك غرفة صغيرة هي "الخلوة" وإن شئت "الكتاب" وإلى جانب الخلوة من الجنوب توجد البئر ودورة الطهارة. أذكر يومي الأوّل في الكتّاب. أيقظتني جدّتي مع الفجر وهيّأت لي فطوري ثمّ أخذتني إلى المسجد قبل شروق الشمس. وقفت بي جدّتي أمام باب الخلوة ونادت: "يا سيّد المؤدّب" فخرج إلينا. كان رجلا ربعة نحيلا ذا وجه طويل تحوطه لحية سوداء. كان يلبس 'جبّة' من الكتّان الأبيض متعمّما عمامة بيضاء قد تدلّى من عنقه خيط أسود يشبه القلادة انتهى إلى "جيب سدريّة" علمت في ما بعد أنّه يشدّ ساعته العتيقة. ذلك هو "سيدي أحمد الزموري" مؤدّب القرية وأمامها. قالت له جدتي في لهجة المستعطف 'يا سيدي أحمد الزموري' 'يا سيدي المؤدب' "أتيت إليك بابن بنيّتي لتحفظه كلام الله فابصق في فمه ليأخذ عنك ما أودعه الله في صدرك من العلم". ثمّ دست في يده بيضتين. أخذ المؤدب البيضتين في يد وشدّ على يديّ بيده الأخرى بدون أن يقول كلمة، وأدخلني الخلوة بعد أن صرف جدتي بدون أن يقول لها كلمة واحدة. وقضيت ذلك اليوم بحصتين: الصباحيّة والمسائيّة في ركن من الخلوة بين يديّ لوحة عليها نقوش ونقط لا أفقه منها شيئا. يدخل الصبية الخلوة فيجدون المؤدب متربعا على دكه عبارة عن مرتفع مبنيّ في طول كنبة عرضها يعلو أرضيّة الغرفة بنحو الذراع بسطت عليه حصيرة بالية، ووضعت في زاويته قلة صغيرة. يبادر الصبية حال دخولهم بالازدحام حول المؤدب يقبّلون ظاهر يده المبسوطة مغمغمين تحيّة مبهمة يلقونها إلقاء سريعا، ثمّ يسارعون إلى ألواحهم المسندة إلى الجدار في زاوية من زوايا الخلوة، متزاحمين متشاجرين لأخذهما، ويجدون في الاهتداء إليها عناء أيّ عناء.
ولكن ذلك الزحام وتلك الجلبة لا يلبثان أن يهدءا ذلك أنّ المؤدب أهوى من مجلسه ذلك المرتفع بعصاه الطويلة التي اصطنعها من جريد النخل على جمع من الصبية فيفرّون صارخين مولولين يلتمسون ألواحهم في هدوء ونظام. تبدأ الحصّة في الصباح بعد صلاة الصبح مباشرة. يخرج المؤدب من المصلّى بعد أن أتمّ الصلاة بالناس فيدخل الخلوة إلى دكته ثمّ يأخذ الصبية المتثاقلين ومازال النعاس يثقل أجفانهم فيقبّلون يد سيّدهم المبسوطة، ثمّ يأخذون أماكنهم ويشرعون في ترديد ما أملى عليهم سيّدهم صباح أمس، ويكرّرون، ويردّدون بأصواتهم الخافتة التي لا تلبث أن تعلو شيئا فشيئا وتخرج إلى ساحة المسجد فإلى الحيّ كلّه. وتختلط الأصوات وتتسابق وعصا المؤدّب تجول بين رأس هذا وظهر ذاك حاثّة على الجدّ والاجتهاد في الحفظ. فإذا أشرقت الشمس وارتفعت وقصر ظلّ الجدار الجنوبي من سور المسجد قدرا معيّنا شرع المؤدب في اختيار حفظ الصبية ما أملاه عليهم بالأمس واحدا واحدا. يتقدّم الصبيّ من المؤدب وجلا من العصا الطويلة المسندة إلى فخذ مؤدّبه وإلى ذلك الشيء المرعب الذي يدعونه 'ألفلقه' المركون في الزاوية المحاذية للدكّة فيقلب لوحته ويأخذ في استظهار ما كتبه أمس. فإذا نجح غمغم له المؤدب هذه الجملة "فتح الله عليك" وإذا أخفق نال جلدات خفيفة من العصا الطويلة إن كان من النجباء أمّا إذا كان من المقصّرين الكسلاء فتشدّ رجلاه بحبل الفلقة وينال جلدات تتفاوت عددا وعنفا حسب درجة تقصير وكسله ويحرمه من تناول فطوره، في حين يسرّح الحفظة لتناول فطورهم الذي أتوا به من بيوتهم. ثمّ يمحون ألواحهم ويعدّونها للإملاء الجديد كان فطور الصبية يتكون من 'البسيسة' المتكوّنة من الدقيق الرّطب المختلط بالزيت فيلتهمونه التهاما ثم يقبلون على جرن صخري يدعونه 'المحاية' فيمحون ألواحهم ثمّ يطلونها بنوع من الطين الناعم حتى تصبح بيضاء ملساء ثمّ يرمونها إلى أشعّة الشمس لتجفّ وفي انتظار أن تجفّ الألواح لهم أن يمرحوا ما شاؤوا. فإذا جفّت الألواح أخذوها ومسّحوا عليها بأيديهم لإزالة ما علق بها من نثار الطين، ودخلوا الخلوة لتلقّي الإملاء الجديد.
يقسم المؤدّب صبيته قسمين: قسم الكبار الذين تقدّموا شوطا في الطّلب وأصبحوا يتفنّنون في الكتابة والقراءة وهؤلاء يملي عليهم المؤدب سورهم الجديدة آية آية بدون أن يغفل تنبيهه كلّ طالب إلى كيفيّة رسم الكلمة على طريقة الرّسم "التّوفيقيّ" الصعب من إثبات المدّ وكيفيّة الرسم إلى غير ذلك...من صعوبة هذا الرسم التوفيقي الذي يحيّر البال ويذهب الذهن. ولسيدي أحمد براعة عجيبة في الإملاء. فهو يذكر الجملة التي انتهى إليها إملاؤه عند كلّ طالب، فإذا حدث أن نسيها – وهذا نادر جدّا – طلب من الطفل قراءة آخر آية أملاها عليه ليواصل إملاءه. وبعد أن يفرغ المؤدب من الإملاء على الكبار ومن تكتيب الصغار يأمرهم جميعا بترديد ما كتبوا إلى أن يصل ظلّ الجدار قدرا معينا فيسرح الأطفال وتكون الساعة آن ذاك التاسعة ضحى. إمّا حصّة العشيّة فتبدأ عند آذان الظهر وتخصص لقراءة ما كتبه الأطفال في الصباح وتكراره فيقبل الأطفال على التلاوة المنغمة متبارين في رفع أصواتهم والمؤدّب يصلح ما يسمع من تصحيف وينشّط من بدأ يأخذه النّعاس بزجرة من صوته الأجشّ أو بمدّة العصا الطويلة حتى إذا حلّ وقت آذان العصر سرّح الصبية وصعد الدرج المؤدّي إلى سطح المسجد ليؤذّن. حدث ذات يوم أن رجعت إلى البيت أضلع لما نال رجليّ من جلد لأنّي لم أحفظ السورة التي كان عليّ حفظها فنالني من الجزاء الوفاق الذي كان سيدي أحمد يجزي به كلّ مقصّر من الصبية دون تمييز. رأت جدّتي ذلك فثارت، وزمجرت، وأرعدت، وأبرقت وكالت للمؤدّب ما شاء الله أن تكيل من الشتم واللعن وكنت أصغي إلى ذلك الإبداع المسجّع المقفى من أدب الشتيمة باستمتاع كبير.
وحالما عاد جدّي من مجلسه في متجر كريم لقيته جدتي شاكية مشنّعة بقسوة المؤدّب وغلطة طبعه وختمت مرافعتها المدنية تلك وحثت جدّي على الذهاب إلى المؤدب لمحاسبته على صنيعه الشنيع. فيجيبها جدّي بضحكه طويلة فيها شيء من الرقّ وكثير من الهزء: "أيتها العجوز الخرفة.. كيف تضيقين بهذه الجلدات الخفاف التي نفح بها المؤدب أحمد؟ ألا تعلمين أنّ الجسم الذي تناله عصا المؤدب لا تناله جهنم؟ دعيني من هذا الهراء.. فما على أحمد بأس من عصا مؤدّبه.. وغمغمت الجدّة غمغمتها المعهودة عندما تكون ثائرة ولا تستطيع إرضاء ثورتها، ونهضت إلى مطبخها لتشرف على الغذاء الذي كانت تهيّئه إحدى نساء أخوالي.
(5)
كانت العشيّة رائعة في آخر الصيف، لطف طقسها وهب نسيم البحر رخاء باردا، جلس شيوخ الحيّ على حصر أخرجها لهم ابن كريّم من متجره وفرشها على البراح أمام المتجر وكان أحدهم يقوم على تهيئة الشاي. وكنت يومها جالسا إلى جانب جدّي – وكثيرا ما كان يستضيفني معه في مجالسه – وفي ما كان الجلساء يتحادثون ويشربون الشاي أقبل والدي أنيقا مهيبا كعادته بقامته الفارعة و'حرامه ألجريدي' الأبيض الناصع فسلم على الجمع وجلس معهم يجالسهم ويشاركهم حديثهم وشربهم الشاي فهممت أن أنهض خشية أن ينهضني والدي ذلك أنّ مجالس الكبار – لا سيّما أبي وجدّي (يجب أن لا يسمع الصغار ما يجري بها) من حديث (ثمّ اصطحبني أبي معه وسمعت جدتي) فصرخت وولولت لكن ذلك لم يجدها شيئا ولم يجديني أنا أيضا شيئا. وتعشّيت ليلتها لأوّل مرّة على مائدة أبي مع إخوتي. وبعد العشاء أخذتني 'بنت الأحول' – التي صارت لي 'أمّي سليمة' أخذتني جانبا وخيّرتني بين أن أبيت مع أخي 'ضوء' وبين الرّجوع إلى جدتي ففضلت المبيت مع جدّتي. ومضيت على هذه الطريقة: أذهب إلى أبي صباحا وأعود إلى جدتي مساء. كنت أخاف من بنت الأحول فلمّا أتيتها وجدتها لطيفة رقيقة فسعدت برفقتها وصارت لي 'أمّي'. ودخلت المدرسة: أذهب إلى دار أبي صباحا وأعود إلى جدتي مساء. وكلّما أتيت رحّبت بي أمّي عزيزة بهذه الأبيات:
ياحمد يا حمد يجعل بنيك لا ينهد * وفي أندادك ما يسبقك حد
ـ ورقة رقم 2 ـ
* وقرية الزّارات في تطور مستمر وتساهم في النهوض بتونس والمشاركة في بناء الدولة برجالها وإطاراتها وشاركوا في الحركة الوطنيّة وقاوموا الاستعمار في جميع مراحله. اصطبغ سكان قابس بالصبغة العربيّة خصوصا بعد الزحف الهلالي 444ه وقد انطلقت القصور منذ العهد الفينيقي ليتدعم مع الرومان. اذ يرتكز البناء القديم على بيوت بسيطة مبنية من الطين والحجارة أو أكواخ من أغصان الشجر داخل الواحات .
3- (ص 48/49) منطقة الزارات:
هذه المنطقة توجد في المنطقة القريبة من هنشير المعمر الفرنسي تريولي حول القصر على بعد 3كلم من قرية الزارات وهي في المكان الذي يؤوي الحرس الوطني حاليا. ففي سنة 1939 اكتشف السيّد (GRUET) نقطتين بهذا الموقع بها مجموعة من الحجارة وجمعت في 13 ماي 1952 وحفظت في متحف باردو وهي عبارة عن 312 قطعة. وفي 1981 وقع اكتشاف مكان آخر على بعد 1كلم من هنشير تريولي ومن ضمن المكتشفات وجود فأس صغير حجري.
*أما كتاب قابس جنّة الدنيا لكاتبه محمد المرزوقي فبعد تكرار ما ورد في رحلة التيجاني زذكر الادريسي لها وهو ما سبق ذكره في هذا النصّ فانه يظيف:
*ويبدو من هذا أنها قديمة وربما كانت من الرباطات البحريّة وأهلها حمارنة منهم عروش من العلاية وأولاد عبد اللطيف (وربما قصد أولاد لطيف على الأكثر) وأولاد حديدان وأولاد محمد والعصايدة.
سكنها في القديم وبعد البدائيين من الانسان القديمة حضارات عدة منها (البربر النوميديون )كما ذهب اليه المؤرخ بلين piline) والفينيقيون والرومان والعنصر الخليط من عرب وبربر وما خالطهم من الدماء الموروثة كالوندال والبيزنطيون ومن هنا يمكن ان نكتشف سرّ نعت ابن خرداذيّة قابس عامة بأنها 'مدينة الأفارقة الأعاجم' وربما كان للزارات في ذلك نصيب).
- وهي قرية موجودة من الزمن البونيقي (على أقلّ تقدير) استنادا على ما يوجد من أثر وآثار راجعة لهذا العصر الراجع إلى 111 ق م تقريبا. حسب الوثائق التي أشيعت أول الأبحاث ثمّ ظهرت شواهد أكثر قدما حتى الآن نورد منها التالي بالاعتماد على أسماء مواقع تعدّ شواهد لا تزال صامدة على الأرض حتى اللحظة ومن غير ترتيب متعمّد:
لمحة تاريخية عن المواقع الأثرية والأركيولوجية بالزارات البلاد القديمة - عين الزارات - البرج - المعمورة - سيدي البكاي _ البهلول ...هنشير القطار _ هنشير الرماد - هنشير الحجاج.
*أقولوم زاراتونسام*
هو اسم لقرية الزارات التي تحتوي على عديد المواقع الأركيولوجيّة وهي تتمركز في جنوبي القرية والتي ربما تكون بقايا المدينة القديمة *لأقوليوم زاراتنسام* والشواهد الأركيولوجيّة توجد بكثافة في هذه المنطقة في خطّيّة متواصلة لعدة أماكن من المدينة وعدد من بقايا جدران وهناك قبّة ذات تربيع (4م x 3،20) مدخلها بحدود 1،70م طولا وبعرض 0،85م وهي توجد على عمق 2،40م تحت سطح الأرض وتحتوي على غرفتين فيهما يرقد جثمانين في قبرين مبنيان وثالث موجود على حال غير بنائيّة أي من حجارة جافة. ومن الأثريات بقايا جدران من المصنفة أفريكونيوم. فيها أيضا بقايا قصر كورنثيّ الهندسة في حال متداعيّة لغياب العناية والمحافظة. أيضا وفي أماكن أخرى توجد بقايا طاحونة وبقايا فخار متنوعة الاستعمال والأشكال. في شمال القرية مقبرة إسلامية قديمة غير محاطة بسياج وهي ترقد على موقع أثريّ ذي أهميّة وتمسح ألفي متر مربّع.وهي تجاور زاوية سيدي البهلول.والتي تقع في قلب الموقع الأثري للقرية القديمة الأثريّة بالزارات.
*عين الزارات:
يسار الطريق إلى شطّ العوامر وتحت قبّة لها أربع فتحات للإضاءة وتقف على أربعة أعمدة وفيها مسبح دائريّ والماء سرّب إليها بطريقة يجعله يسيل على مدار الأربع وعشرون ساعة لتستحم فيها النسوة صباحا وبعد منتصف النهار يكون دور الرجال ونصيبهم من الاستحمام فيها. الماء فيها مخلوط بشكل يكون مستساغ الحرارة بما أن عين الزارات هي في الحقيقة عينين واحدة ماءها بركانيّ حار وثانية تجاورها ببعض من المتر هي باردة. وما يشد الانتباه طريقة تصريف هذه المياه عبر قنوات منها ما هو مغطى والذي يزود المسبح بالمياه بينما قنوات ثانية مفتوحة للناظرين وهي تحمل المياه الخارجة من المسبح الى الغابة القديمة وقبلها تجتمع في حاوية إسمنتية مربعة الشكل تقع تحت سطح الأرض. من الخرافات التي تستند إلى طقوس قديمة يروى أن أمّ المعمورة هي الحامية للبحارة وإذا ما بحثنا في الشواهد التاريخيّة نستطلع بقايا ناظور بحريّ يرى من الشاطئ بشكل واضح نسبيا لذلك نجد البحارة وأهليهم من يسهر على منح الهبات لأم المعمورة من بعض المال والزيت فداء لأرواح البحارة حتى تعيدهم سالمين غانمين. ومن خلال تقدمنا نحو الغرب نكتشف أن للمدينة الأثريّة تواصل حيث نجدها مقسّمة الى وحدات مطمورة تظهر منها ما يشبه الفلول بين كل مجوعة سكنيّة حديثة معاصرة. منها في اتجاه الغرب ما يشبه المسبح من آجر (الإيبوكوست) والذي يسند عادة التقطعات وهذا المسبح يجب أن يكون قعره مغطى بلوح فسيفسائي مفقود رغم بقايا وحدات العمل ألفسيفسائي التي عثر عليها في المكان دليل على وجوده هناك قبل فقده. ومتكونة هذه الّقايات الراجعة للوحة من قطع من الرخام مصقولة كما يوجد بقايا قصر قديم قطع نقدية من البرنز. أيضا عثر على بقايا مصابيح
*سيدي العابد: هو موقع تربيعي الشكل يحتوي على مبنى صغير به قبّة وفسحة وهو أيضا يقع على خارطة الموقع الأثري الذي لا يزال تحت سطح الأرض للزارات التاريخيّة. وعثر حوله وعلى مقربة من زاويته مسافة من زاوية سيدي العابد بما يقارب 15م والتي تغطّي أرضيّة رماديّة أعيد إحيائها بالجهد ألفلاحي لساكني القرية الحاليين على أواني فخارية من السيراميك القديم وعلى قطع رخاميّة وبقايا مصابيح الإنارة.
*سيدي البكاي: هي زاوية مشابهة تماما من حيث الشكل والنمط الهندسي لزاوية سيدي يحي بعرام وسيدي مبروك في جبنون (وافيسن) وتقع على أرض في عمقها بقايا مدينة أثريّة ل*أقلوم زاراتونسيوم*
*هنشير الحجاج: وهو موقع يمكن لنا بالعين المجرّدة رؤية جلمودين حجريين مصنوعين بيدي بنائين مصقولين على الطريقة ربّما تكون رومانيّة أكثر منها قرطاجنيّة. ونشهد بقايا شكل هندسي ذي تربيع هو الآن يقطعه طريق زراعيّة. هذا الموقع يجب أن يكون حسب المتوقّع أكبر وأضخم من الهكتارين ونصف الذي حصره البحاثة والموجود الآن وامتداد لمدينة *أقلوم زاراتونسيوم* فهو دليل ثابت على وجود تجمع آهل في تاريخه القديم (جزء من المدينة وامتداد لها) حيث عثر على لقيّ أثريّة منها الفخاريّة السيراميكية القديمة ومعاول عمل زراعي وصناعي وغيرها من الدلائل والشواهد التي تشير إلى وجود تجمّع سكاني من عصر *أقلوم زاراتونسيوم*.
*موقع أمّ المعمورة: ويمسح 5 هكتارات مقابلا البحر يجمع بين الموقع الأثري ذي الطابع الطقسي الديني والذي أسس عليه أهل المكان تحولات عدّة في أسطورته ووظائفها التي تهتم بسلامة البحارة بعد كلّ مرحلة انقطاع صلة بالبحر والعود إليه. إذ من الأهمّية أن نعلم أنّ لكل مرحلة ميزة تراوحت بين العمل الزراعي الفلاحي ومرحلة يهتم فيها أهل المكان بالبحر ومنتجاته وفترات يجمعون فيها بين ما يستخرج من البحر ومزارعهم الفلاحيّة.
وفي زاوية أمّ المعمورة وعلى خلاف عدد من الزوايا تتميز بوجود مرابط marabout. لخدمة الطقوس المخصصة للزاوية بما تحمله من خصوصيات عقائدية تقليدية متوارثة بتحريفات زمنها وتطويع المرحلة وعقيدتها الدينيّة.
*هنشير دسّور: ويمسح هكتارين من الأرض التي تتميز كغيرها من المواقع بعزوف الناس عن ممارسة أي نوع الزراعة فيها لذلك نجدها قاحلة مهملة.
*هنشير دسّور هو أحد المواقع الأثريّة القديمة (والذي على الأرجح هو امتداد للمدينة التاريخيّة *أقلوم زاراتونسيوم*) ويوجد من الدلائل والشواهد على مساحة 100م ساحة أو باحة لمبنى أثريّ من السيراميك متروكة ومهملة رغم أنها من النوع النادر الوجود ليس في إفريقيّة فقط بل في العالم.
*(إفريقيّة هو الاسم الأصلي لبلادنا والذي دونه أبو التاريخ هيرودوت 'Africa' قبل أن يطلق على القارة وتتحوّل بعد التقسيم الاستعماري إلى تونس وإفريقيّة هو تحريف أيضا لتسمية أرض فريقه مطمور روما القديم والذي كان يطعم إمبراطوريتها من مطمور قمحها)*
*ونحن نتجه باتجاه الشمال نحو تكابيس (قابس) وما اشارتنا للاسم القديم الروماني لقابس الاّ تكثيف الدلالة على أن قابس كانت من أهمّ المحطات التي تحتوي على مواقع ومستوطنات من بينها المدينة التاريخية *أقلوم زاراتونسيوم* وعلى طريق الرابطة مع الموقع الذي سنورد عنه ما ينير بعض رموزه 'البرج' كما يسميه أهل قرية الزارات يقع موقع:
*هنشير القطّار: والواقع بقرية 'ليماية' بين صور البحر وأرض العصايدة. وبها نجد هيكل تربيعيّ الشكل (39م x39م) من السيراميك هو غير موجود الآن ولسنا ندري أين حمل منذ الفترة الأخيرة للاستعمار الفرنسي للبلاد. واستنادا لبعض ما بلغنا من نتائج الاستقصاء والبحث التاريخي والاركيولوجي والتي استندت على بقايا ما رفع من المساحة المذكورة أنه من الممكن أن يكون تريوليه المعمّر الفرنسي الذي كان قد بنا له على ربوة (بقايا مرتفع هضبة قديمة أركيولوجيا وجيولوجيا) مشرفة من جهة على البحر ومن جهات أخرى على كامل المنطقة وعلى وجه التخصيص قرية الزارات الحالية. قد يكون تريوليه هو من حوّل ورفع هذه الأرضيّة السيراميكية التاريخيّة الأثريّة ليزرعها ثانية في (فيرمته) والتي تسمى الآن 'البرج' ونتيجة البحث التاريخي توصلت الى تحديد أولي لهذه القطعة إذ أنها ربّما كانت تستخدم مساحتها كملجئ للبحارة (cabane).
*موقع هنشير الرّماد: ويقع شمال وادي الزركين مطلّ على البحر بمسافة لا تتجاوز 500 متر من شاطئه ويرجع الى أحد امتدادات وأفرع مدينة *أقلوم زاراتونسيوم* التاريخيّة إذ أن الأبحاث الأركيولوجية والدراسات التاريخيّة أثبتت من خلال القيّ والشواهد التاريخية التي من بينها القطع الحجريّة المصقولة بيد بناء العصور القديمة وجدت قطع سيراميكية وآجر مطبوخ في الأفران وأدوات لعمل الطبخ في الأفران وهو ما دلّ على أنّ هذه المنطقة هي بما يشابه المنطقة الصناعيّة التي تعتمد على صناعة الآجر المطبوخ في الأفران وهي تزوّد حركة البناء للمدينة *أقلوم زاراتونسيوم*وهي أيضا نقطة متاجرة في هذا الاختصاص من المواد الفرنيّة من خلال موقعها البحريّ إذ ربّما كانت (كما نستدلّ من القليل من الشواهد) أنّ هناك حركة اتجار بحريّة من هذه المنطقة.
*وإذا ما عرفنا أن ما يتميّز به موانئ عصر قرطاج والحقبة الرومانيّة أنه يعتمد أساسا على معطيين يحميان طبيعيا هذه الموانئ من الغزوات البحريّة للأعداء وهي اجتماع النهر بالبحر حيث يبنى الميناء داخل النهر وعلى مسافة قريبة جدا من البحر وتكون بوابة الميناء هو بوابة ولوج النهر إلى البحر حيث غالبا ما تصنع سلسة حديدية تغلق البوابة بإحكام وهذا الميناء هو متعدد الاختصاص فهو تجاري وعسكري في آن. ومن مميزات المدينة القديمة التاريخية *أقلوم زاراتونسيوم* أن بها من الأنهر التي كانت نشطة ولها منافذ بحريّة متسعة تصلح لتكون ميناء محميا طبيعيا.
*ونختم بما وصلنا من أبحاث توقفت مع العصر الاستعماري وأوائل الاستقلال الداخلي. والتي قام بها بحاثة أغلبهم من فرنسا وإيطاليا وبريطانية في كامل مناطق البلاد وثمة أبحاث قامت بها شخصيات أمريكيّة خلافا عن دوائر البلدان الأوربيّة المذكورة. لذلك أسلفت ب'أختم' ما توصلنا إليه حتى الآن من نتائج. لنعود الى ما ذكرناه في مسار بحثنا هذا.
*موقع البرج "فيرمه تريوليه":
وتعود لفترة الاستعمار الفرنسي الكولونيالي الذي سعى لتشكيل نواة في كلّ خارطة الوطن بعامته لخدمة أغراضه الاستعمارية العسكرية والاقتصادية ومنها الفلاحة بواجهتيه البحرية والبريّة .
إذ منح الأراضي المغتصبة بقوّة السلاح والتمويلات السخيّة لمواطنيه لكي يقوموا بدورين استعماريين (عسكري واستغلال فلاحي أو صناعي وهناك من جمع الاثنين حين توفرهما) وفي قرية الزارات وعلى مسافة تعتبر بعيدة عن القرية (الزارات القديمة) التي تجاور الزارات الحديثة الحالية والتي كانت على مسافة خطوة من الواحة البحريّة القديمة. والعين 'عين الزارات التاريخيّة' المذكورة في رحلات التيجاني وعديد الكتابات التاريخيّة.
يقع البرج على هضبة قديمة جيولوجيا ويتوسّط غابة من الكاليبتوس الجبليّ منه ما زرع لغرض زينة 'الفيرمه' ومنها ما هو موجود منذ كانت مرتفعا في أزمنته القديمة ثمّ فعل فيها الزمن بانحرافاته وانحرافاته ما جعلها تنحدر إلى مستوى أعلى من البحر بارتفاع بسيط نسبيا. بها ما يشبه المنارة وهي البرج 'برج المراقبة' العسكري والاستكشافي، الذي منه نبعت تسمية 'الفيرمه تريوليه' بالبرج أو برج المعمّر. هذه 'الفيرمه' هي خليط هندسي في شكلها الرئيسي الأول بين الشمال إفريقي والأوربي القروي البرجوازي (الذي بقايا الارستقراطيّة الأوربيّة القديمة) مصبوغ بلمسة العسكرة الاستعماريّة. ثمّ بعد الاستقلال بأزمنة استغلّ كمصنع تعليب الأسماك كالتونة والسمك الأزرق الذي عرف به بحر الزارات الغنيّ بالثروات البحريّة المختلفة رغم الصيد العشوائي نتيجة الصيد المخالف للقانون من طرف بحارة من غير بحارة المكان والذين يصيدون بغير تراخيص قانونيّة وبطرق محرمة ومجرمة في آن. وسميت 'ببرج تريوليه' نسبة للمعمر (تريوليه) الذي سكنها زمن الاستعمار واستثمر أراضيها المجاورة لها إذ أنه لا يوجد له ذكر ولا وجود في الأرض التي كان يشغلها أهل القرية بل استحوذ على ما يجاور مبناه وعلى بعد يكفيه لكي يكون محميا طبيعيا قبل الحماية العسكريّة. وهذه المنطقة دونت في (أطلس ما قبل التاريخ "ورقة قابس") لانتمائها إلى الموقع الأثريّ للزارات التاريخيّة *أقلوم زاراتونسيوم* ربما كان موقعها العسكري وميناء تجارتها وحاميتها العسكريّة (خصوصا وأن هذا الموقع يجاوره وادي قديم حتى على شكله الحالي هو يتيح لنا أن نخمن أنه يكون الميناء الرئيسي للمدينة *أقلوم زاراتونسيوم* بحكم اتساع فتحته التي تصبّ في البحر من جهة مقاربة تماما لما يسمى الآن (أرض الزعابة بنخلات الزعابة المعروفة لدى العام والخاص من شباب وشيوخ القرية).
* وقد كتب الدّكتور مختار العيّاشي حول برج تريوليه في دراسة له:
- تريوليه: المعمّر الذي ينتمي إلى وسط عائلي من أعلام الثقافة الفرنسيّة من رجالات وشهيرا الأدب الفرنسي ونذكر منهم صهره (لويس أراغون louis Aragon ) الشاعر والأديب العالمي الشهير وبدون أن نغفل أخت تريوليه زوجة أراغون (السا تريوليه Elsa triolet) وهي لا تقل شهرة وألمعيّة أدبيّة عن زوجها وهي كانت دائمة الحضور بالزارات أيام وجود تريوليه فيها وكانت تراسل اراغون تخبره بجمال المكان وطبيعته وبحره وواحاته وسهوله وغابته (التي هي الآن محمية طبيعية) التي كانت تجاور برج تريولي مسكن وبرج مراقبة تريوليه بالزارات. وفي هذه الرسائل توثيق تاريخي مهمّ يستوجب إعادة ربط الصلة مع أحفاد ومن تبق من عائلة تريوليه على قيد الحياة للحصول على صور ووثائق تهمّ أهل الزارات لتلك المرحلة. وهي( source iconographique ) مهمّ للتاريخ.
*أما في الوثيقة قابس التي في أطلس تونس في فقرته 23 والتي خصصت لقابس وتحديدا في الصفحات من 23 وحتى 25 المخصصة لدراسة مواقع الزارات فورد التالي:
*فيرمه ترولي وتسميتها أيضا فيرمه نوفارمور novarmor في سنة 1939 اكتشف السيد gruet موقعين بواد صغير ألهما يرجع aux industries a lamelles 'يتلقّى مع صناعات لوحات' أما الثاني فيرجع الى العصر النيوليتي neolithique. ومتمثلة هذه الملقيات الأثرية المجمعة والتي حوّلت الى متحف باردو في 13 ماي 1952 في مجموعة من lamelles وتعد المجموعة كلها ب 312 قطعة أثرية مستخرجة من ارض الزارات في الموقع المذكور.
وتتعدد حول:
4 قطع من مكشطة grattoirs
14 قطعة من burins.
125 قطعة من لوحات يتلقّون خلفيّة. lamelles a dos.
36 قطعة من ميكروليثس هندسيّة.microlithes géométriques.
37 قطعة من micro burins غرفر دقيقة .
5 قطع من micro burins K
18 قطعة من nucleus نواة
5 قطع من éclats bruts
68 قطعة من lamelles brutes
المجموع: 312 قطعة.
كما عثر على بقايا:
15 قطعة من fragments doeuf d’autruche
1 قطعة من grain d’enfilage
1 قطعة من columbelle
5 قطع من murex
8 قطع من coquillages divers
المجموع 30 قطعة.
* أمّا المجموعة المنتمية للحقبة النيوليتيه: néolithique فهي مدونه مثلما وجدت في وثيقة تدوينها عند R.Vaufrey 1955.
عدد 5 قطع grattoirs
عدد 1 قطعة lame a dos abattu
عدد 5 قطع lamelles et éclats a coche
عدد 175 قطعة lamelles a dos abattu
عدد 24 قطعة triangles
عدد 2 قطع trapèzes et rectangle
عدد 9 قطع micro burins K
عدد 2 قطع pièces foliacées
عدد قطعة 1 Flèche pédonculée
المجموع: 224 قطعة.
مع عدد 6 لقيات متمثلة في grains d’enfilage
*وبمناسبة الاشتغال على أطلس ما قبل التاريخ préhistorique لتونس 28 جانفي 1981 تمّ اكتشاف محطة على بعد كلم 1 جنوب فيرمه تريولي وهي تحتل منصة غزا بكثبان حادّة واد قرب نقطة مياه (عين).و يجمع صناعة من صوان في أغلبيته عظيمة.
plate-forme envahie par des dunes vives et surplombant un oued a proximité d’un point d’eau
L’industrie récoltée est en silex et en opale saccharoïde dans sa grande majorité. Elle est composée de:
.nucleus 8
clats bruts 204
Lame brute (débitage par pression) 1
Grattoir simple sur éclat 1
Grattoirs denticules 2
Burins nucléiformes 3
Coches et denticules 11
Pointe 1
Micro burin 1
Racloirs 2
clat Levallois 1
المجموع 237 قطعة.
مع 4 قطع متمثلة في:
Fragment de dent animale 1
Cyprée 1
Cône 1
Nasse 1
وبرغم من النماذج التي استخرجت من البحث الاركيولوجي والحفريات الأولية التي ذكرنا. فهي على الارجح تعود الى العصر والحقبة النيوليتية
neolithique وهي على مقربة كبيرة من فيرمه تريوليه المذكورة.ومن
بينها فأس صغير سنورد صورته.
Fig. 6 - Zarath, hache polie et burins (dessin F. Dahmani).
ATLAS PRÉHISTORIQUE DE LA TUNISIE
وعند متابعتنا للأبحاث والحفريات التاريخية التي أجريت على عموم منطقة 'تكاباس' قابس يحملنا الظنّ والتخمين أن هذا المكان أيضا من الأصل هو يرجع بتاريخه إلى الأبعد من التاريخ الذي وجدت به مدينة *أقلوم زاراتونسيوم* بل ربما كان بحكم ما فيه من مميزات رئيسيّة وأساسيّة للعيش البشري منذ القدم من ماء وزرع قابلا للأكل وبحر قابل للاصطياد على شواطئه وغير ذلك من ما يؤسس تاريخا أبعد من العصرين القرطاجنّي والروماني اللذان يعتبران متأخران جدا من حيث زمن وجود هذا المكان وأهله اللذين أولهم بربري صرف تحوّل على مرّ العصور وبحكم الدم القبلي وحركات النزوح والمصاهرة وغيره ليكون مزيج من نسب عربي مبربر وبربري معرّب. ونشير الى أن مواقع اكتشاف أثار الإنسان البدائي في عصوره الحجريّة لا يبعد سوى بعض أميال من الزارات وأكبرها وأهمها على الإطلاق موقع (وادي العكاريت) "ما يقارب 30كم شمال قابس". إلا أنّ حال الزارات كحال عديد المواقع الأثريّة القديمة في البلاد مهدور رغم ما نتبجح به من شعارات وأهداف لمشاريع وهميّة لتعمية أعين الناس من سياحة ثقافيّة وغيرها من العلمية وأسسنا لها دوائر رسميّة منها المعهد الوطني للآثار الذي نسأله ومن خلاله الدولة التونسيّة كرّم الله وجه مسؤليها العظام.
ـ ورقة رقم 3 ـ
* ويضيف الدكتور مختار العياشي في دراسة تاريخيّة حول معالم الزّارات الرئيسيّة:
* عين الزارات:
كما عثرنا على وثيقة لدى نفس المصدر الأستاذ الباحث في التاريخ مختار العياشي. تتمثل في شكوى مقدمة من طرف حمده بن حفيظ ومن معه من أهالي الزارات ومنهم : (عمر الكرو، مسعود العياشي، عمر بن الحاج، علي بن الحاج محمد الكرو، علي بن إمحمّد بن عبد لله، هذه الشكوى المؤرّخة في 01 جويلية 1897 قدمت إلى قايد الأعراض (أي قابس) يعترضون فيها على أشغال تنظيف أو ترميم كانت السلط تنوي القيام بها في العين. نظرا للمعتقد السائد في حينه بأن العين يقطنها أولياء 'صالحون' وهم القائمين على حالها وحال ناسها بما في ذلك موقعها وواقعها من نظافة الى بناية. وقد كتب في هذا شأن المراقب المدني بقابس 'وهو السلطة الفرنسية الموازية لسلطة القايد'. يقول في مكتوبه المؤرّخ في 20 جويلية 1897 أنه قد تحصّل على موافقة شيخ الزارات وأهمّ الأعيان في هذه القرية منذ يوم 26 جانفي 1897 بأنّ العين تعتبر من صنف المصلحة العامة وتكون بذلك من مشمولات السلط وليس لذلك علاقة لا بالدين والمعتقد ولا بالمعتقدات الشعبية.
** يصفها التيجاني وهو قادم من جهة كتانة متوجها نحوها: 'الزارات قرية ذات نخيل كثير وماء غزير ينبع من عين حمئة وأهلها من البربر (أي من سكان البلاد الأصليين) ومتمسكين بمذهب الخوارج وهذا المذهب هو الغالب آنذاك على جميع البقاع التي بين قابس وطرابلس وخصوصا أهل الساحل البحري (يصفهم بأهل المذهب المذموم يبيعون من يمرّ بهم من العرب إلى الروم). وهذا وجه آخر للزارات وكأنه لوحة حيّة عبر وصف: Fernand Lafitte et jean servonnet في خليج قابس خلال سنة 1888 أي بعد احتلال تونس بسبع سنوات وهذه ترجمة لأهمّ ما ورد في الفقرات التي تهمّ الزارات البلدة: "الزارات قرية يسكنها قرابة 500 نسمة من أصل بربري وتشبه حدائقها في اخضرارها حدائق قابس بها نخيل كثير مثمرة تسقيها مياه متدفقة من عين سخيّة تصبّ في بركة كبيرة قبل أن تتفرع إلى سواقي باتجاه الواحة. ولما يأتي الزائر بين العصر والغروب في فصل الصيف خصوصا يشاهد مظاهرا من الحياة اليومية فريدة لهذه القرية عند نقطة الماء هذه: 'في نفس الوقت الذي يسبح فيه وسط هذه البركة الكبيرة مجموعة من المراهقين (مثلما ولدتهم أمهاتهم) تقوم النساء في أطراف الماء بغسيل الأدباش أو غسيل الصوف أو أيضا تنظيف أطفالهن الصغار. تشاهد الفلاحين القادمين من الواحة الذين يكسوهم العرق من حالة الإعياء من عمل الحقول الشاقة يتخلصون من ادباشهم للارتماء بدورهم في بركة الماء' كما تشاهد أيضا في نفس الوقت رعاة يصطحبون أغنامهم الظمئ التي منذ أن تطل على مشهد الماء من المشارف المجاورة حتى تنطلق في سباق فوضوي من عدّة أنحاء إلى نفس الهدف 'ماعز وخرفان أحمرة وخيل أبقار وجمال تتدافع بالبركة حتى مستوى بطونها. وهكذا تتعكّر صفوة الماء بالوحل والفواضل الحيوانية حتى تصبح العين كأنها مستنقع ولمّا تمرّ هذه الضوضاء الحيوانيّة حول الماء تتحوّل أحواض البركة إلى تجمّع للفواضل التي كانت تطفوا على سطح الاء. وبالاختلاط بهذه الأوساخ يحمرّ لون الماء ويتألم المرء يشاهد النسوة يملئن أوعيتهن الفخارية والقرب من هذا الماء العكر دون وعي بمخاطره على الصحة ثم يحملنه للاستهلاك العائلي في بيوتهن " (على اعتقاد أن هذا الماء تغربله الملائكة)
** هنا يطالب صاحب الرحلة السلط المحلية بالتدخل من أجل الحفاظ على صحة هؤلاء الناس الذين ينتمون (على حد قولهما) إلى حضارة من أعرق الحضارات الإنسانية. كما يشير صاحبا الرحلة إلى وجود بعض الأثار الرومانية هنا وهناك وأنت مار من جهة الزارات وهي تنتمي الى مركز عمراني غابر وعلى حسب دليل Peutinger العالم الأثري فإن هنالك محطة رومانيّة قديمة تسمى fulgurita يوافق موقعها واحة الزارات (نسبة إلى مسافة التي تربطها بمدينة "تكابس" (قابس) لكن دليل antonin للأثار الرومانيّة يحدّد الموقع الأثري للمدينة العتيقة المعروفة 'بالمديّنة' على بعد بعض الكيلومترات جنوب الواحة قرب سبخة أين توجد بعض البقايا للآثار لكنها أقلّ أهميّة من الآثار الأولى. وهذا مما يجعل من الصعب تحديد الموقع الصحيح للقرية الرومانيّة fulgurita ما بين الموقعين المذكورين (قرب الواحة أم قرب السبخة). لكن من المعروف أيضا أنه كان للرومان العديد من 'أبراج المراقبة' للسهل الممتدّ من جهة جبال مطماطة إلى البحر "بحر الزارات" ولعل بقايا بعض هذه البناءات تعود أيضا إلى أبراج المراقبة.
** ومن ناحية أخرى لم يرد شيء في تدوين هذه الرحلات يشير إلى تواجد سكان من الديانة اليهودية وكلّ ما نملكه هو بعض شهادات أو ذكريات للمعاصرين الذين هم من بيننا والذين يذكرون وجود عائلة واحدة بها 3 إخوة وهم : 'براهم، خديدر، وشويكم' أما بالنسبة للأب والأم أو النساء والأطفال فلا وجود لمعطيات تهمّهم إلى حدّ الآن.
** كما ورد ذكر موقع الزارات في بعض المراجع في القرن الثامن عشر إذ كانت ترسو بعض البواخر بميناء 'القرين' لشحن أو تصدير الحلفاء باتجاه بريطانيا.
** البئر الارتوازي: الكائن بالسدريّة. هنالك عريضة بتاريخ شهر جويلية 1920 يطلب فيها نوّاب عن سكان الزارات من السلطة حفر بئر ارتوازي بالسدريّة موجّهة إلى عامل الأعراض 'قابس' محمد بن الخوجة ويطلبون منه مخاطبة الدولة لحفر بئر فوّارة بالبلاد مثل الآبار التي تمّ انجازها في منطقة الاعراض ونجد بهذه الوثيقة 60 توقيعا.
*يحيل حاكم الاعراض هذه العريضة إلى الوزير الأكبر محمد الطيب الجلولي بتونس بتاريخ 20 أوت 1920 ويرفقها بالملاحظة التالية.
"ورد علينا مكتوب من أعيان الزارات يلتمسون فيه تأسيس بئر فوّارة لإصلاح غراستهم وأعلمكم أنّي توجهت أخيرا لتفقد أحوال جهة الزارات بصحبة جناب المراقب المدني وشاهدت من أهالي تلك الجهة الاقبال على شؤونهم ولا انقطاع في اخلاصهم ولذلك نرغب إحالة مطلبهم على جناب مدير الاشغال العامة للدراسة ولتقييم والمصاريف اللازمة ليقع إعلام أهل الزارات بذلك." أمّا جواب إدارة الاشغال العامة في 04 أكتوبر 1920 فانه أفاد بان هنالك محاولة لحفر بئر ارتوازية في السدريّة قد تمت بين سنوات 1903 / 1905 لكن يبدو أنها لم تصادف مياها فوّارة. ويبدو كذلك انّ مصالح ادارة الاشغال العامة قد قامت بمحاولة ثانية كانت قد أعطت أكلها ونتيجة ايجابية خلال سنة 1921/1922.
*** كما أن هناك شكوى ثانية مقدّمة من اهالي الزارات ضدّ بعض فلاحين من قبيلة الحمارنة يسكنون الجهة الغربية من السدريّة وذلك لاستعمالهم لماء هذا البئر لريّ أراضيهم المجاورة ويذكرون في هذا المكتوب أن جيرانهم (الفلاحين الحمارنة) لهم بئر خاصة بهم وأن هذه البئر هي مخصصة لأهالي الزارات المتضررين من حالة الجفاف وكذلك فانهم يتحملون لوحدهم الأدآت الموظفة على استعمال مياه هذه البئر. هذه الشكوى الثانية مقدمة مباشرة في 26 ماي 1936 الى الكاتب العام للحكومة التونسية وتحمل عنوان ينوب أهالي الزارات وهو محمد المقطوف 140 نهج الحلفاوين. يقول الموقعون. يقول فيها الموقعون أنهم اشتكو أمرهم إلى الخليفة (بوبكر بن عبد الرحمان) ثم إلى القايد والمراقب المدني الفرنسي في قابس. فأمرا بكفّ استعمال ماء هذه البئر لريّ أراضي الأجوار. لكن يبدو أنّ هذا النزاع قد استمرّ حول موضوع تقاسم ماء الريّ لآن موقف الخليفة بوبكر بن عبد الرحمان يبدو أنه لم يكن محايدا... وهذا ما أدى إلى القيام بشكوى ثالثة موجّهة هذه المرة باللغة الفرنسيّة من طرف كاتب عمومي ويقول فيها أصحابها أي الموقعون عليها أن شيخ القرية على اتفاق مع الخليفة كذلك عدول الجهة هم على نفس الاتفاق. ويؤكدون أن الخليفة يحاول بهذه الضغوط أن يحصل على اعتراف موقّع من طرف اعيان القرية الآخرين أو نواب الفلاحين للسماح للأجوار الحمارنة بريّ مزارعهم من مياه هذه البئر.
ووقع على هذه الشكوى 50 شخصية من شخصيات القرية (حينها)
** وفي يوم 03 أوت 1936 هناك
* مسجد الزارات:
تمكننا من الحصول على وثيقة تاريخية مهمة عثرنا عليها لدى الأستاذ والباحث في التاريخ السيّد مختار العياشي. تتمثل في مراسلة من المراقب المدني بقابس (ما يضاهي رتبة الوالي حاليا) موجهة إلى الكاتب العام لحكومة الحماية بالحاضرة تونس بتاريخ 28/01/1922. يقول فيها أنه " خلال تجواله زار قرية الزارات فشاهد سكّانها الهادئين والجديين في العمل وعنايتهم واهتمامهم بترسيم مسجدهم وقد أنفقوا حوالي 800 فرنك في السنة الماضية (أي سنة 1921) لإصلاح بعض أجنحته زهم اليوم يطلبون من 'جمعيّة الأوقاف' بأن تساهم معهم في إصلاح 'الميضة' وبناء صومعة وتبييض الجدران وترميم الخلوة التي يدرّس بها المؤدّب وهو الإمام في ذات الوقت. وعلى إثر الحرب العالمية الثانية والتي دارت رحى معاركها الطاحنة ذات الأهميّة التاريخيّة الكبرى في ما يسمى تاريخيا بخطّ مارث ومن أكبر هذه المعارك ما سبق وذكرنا عن معركة الزارات وما أغفلنا من معارك جويّة وبريّة وحتى بحريّة أضرت أيما اضرار بالزارات ومن الأضرار ما تعلّق بالمدرسة الابتدائيّة والتي استخدمت كمقرّ عسكري ومن أثار التدمير ما وقع في مسجد الزارات والذي وجدنا رسالة أخرى في سياق وموضوع طلب الاصلاح. قد وجّهت من أهالي الزارات في 20 ديسمبر 1950 إلى سموّ باي تونس يشتكون فيها من تقصير رئيس 'جمعيّة الأوقاف' 'المدعو الهاشمي بن خليفة' الذي لم يرصد الأموال لترميم المسجد المذكور الذي انهار بعضه على حد قولهم وابعضه الآخر على وشك الانهيار. ويطلب أهالي الزارات إذنا من الباي بأن يأمر جلالته رئيس إدارة أضرار الحرب أن يسلّمهم الاعتمادات الذي خصص لترميم المسجد حالا. ومن بين عشرات التوقيعات كاتب الشكوى (سي علي بن عمّار) و 73 توقيعا يمثلون عروش الزارات كافة تقريبا.
الزّارات والتّاريخ النّضالي
{مشهد ملاجئ الجيشين المتصارعين في الحرب العالميّة الثانية بين شطّ العوامر والزارات}
على صغرها وقلّة تعداد سكانها كانت وستبق الزارات قلعة نضال شامخة وجزء لا يتجزأ من ما يمرّ به الوطن. ومن الصفحات الخالدة وقفة أهلها منذ بواكير دخول الاستعمار الفرنسي لتونس وهي التي كانت ضمن أقوى حلف من أحلاف قابس وقد ضمّ كلّ من "جارة" و "وذرف" و"مارث" و"كتانة" و"عرام" وقصر دبداب" (و على الأرجح والأصحّ دباب). و"الحامة" و"بني زيد" و"الحمارنة" و"العلاية" و"مطماطة" وهو صفّ شداد الذي كان يناوئ صفّ يوسف قبل الاستعمار وحتى أثناء وجوده بعد أن غذى هذا الانقسام بدسائسه ومؤامرته. ودخل النزال والحرب على المستعمر في صفّ (رغم العلاقة التاريخية المتوترة والتي يسيطر عليها التنازع والتحارب والتقاتل مع قبيلة النفافتة لكنهم اجتمعوا على العدو الغاصب الفرنسي رغما أيضا تاريخ الرجل الذي قاد الفريق برمته وهو (علي بن خليفة النفاتي). في منطقتهم التي تسمى آن إذ (منطقة الاعراض) أو في غيرها من مواقع القتال بالبلاد انطلاقا من معارك صفاقس الشهيرة ومعارك قابس طبعا التي لم يتمكن المستعمر من تأمينها ودخولها الاّ بعد شهور طوال من القتال الدموي الشرس. وحتى آخر معركة خرج على اثرها العدو من برّ الجنوب في (معارك جلاء الجنوب) التي اقتبس اسمها بورقيبة في معركة بنزرت حتى يطمس هذا التاريخ بتغليب جلاء بنزرت اعلاميا وسياسيا وتاريخيا ووظفه ليلغي الأصل حتى يتمكن (حسب رأييه) من تركيع الجنوب الذي كان ذي اغلبية (يوسفية) مطلقة. زمنهم فصيل من أهل الزارات. كان يوسفيا بينما كان شق منهم بورقيبيا.كغيرهم من مناطق البلاد. ولقد دوّن في ملفات المراقبة المدنية لتركيبة العروش ومجالاتها الترابية الى حدود مطلع القرن العشرين لدى الحاكم الاستعماري الغاصب الفرنسي بقصد حصر الجباية. أنّ الزارات ومنها أهل العلايا راجعين بالنظر الى مركزها. سكن أرضيهما التي كانت تعتبر اداريا وحدة ترابية واحدة. (الزارات والعلايا) = الزارات. الزوارتية وكلّ من أولاد لطيف وأولاد محمد وأولاد عبد اللطيف وأولاد حديدان والعصايدة. وتذكر بعض المصادر أهمها ما دوّن لدى المستعمر من وثائق جمعها لاحكام سيطرته على البلاد من خلال معرفة دقيقة بعروش وقبائل سكان البلاد وشخصياتهم الحياتية العامة والحربية العسكرية تنظيما وقتالا. ولئن كان لقبيلة ورغمة السلطة المطلقة على الفضاء الذي يضمّ الزارات بعد ان ازاحت منه وعنه أولاد دباب بعد ان ازاحو هموا أنفسهم منها أولاد رياح وجوشم. الاّ أنّ الأرض لا تأب الفراغ والناس في حراك دائم بحثا عن المرعى والماء والمأكل وعليه تدور صراعات الماضي من شرق وشمال الكون الى جنوبه وغربه. وهذا ما يحصل عادة في جنوب تونس حيث فاز الحزم بالمواقع وتراجعت ورغمة الى مضارب جديدة ومنها القديمة بينما بسط الحزم سلطتهم على المكان وفرّخوا العائلات التي ستصبح يوما عروشا.
* فمن هم الحزم؟.
قبيلة رحالة حطت الرحال بالجنوب في حدود 1200م قادمة من طرابلس بمرافقة "بن غانية" وكان لبداية توسعهم منطلق هو أرض مدنين التي افتكها منهم قبيلة ورغمة. ليتجهوا نحو قابس ومارث حيث تمكنوا من إقامة مضاربهم ومواقعهم وبسط نفوذهم. ونقول طرابلس من غير الاشارة لليبيا لأنها كانت ضمن خارطة إفريقيّة القديمة قبل رسم الحدود الاستعماري الحالي (إفريقيّة أو فريقه هما اسم لتونس) وهذه خارطة حدودها القديمة نرفقها بالفقرة.
ويرجع اليهم وإلى أصل قبيلتهم (أولاد دبّاب) الحمارنة كما جاورهم الغرايرة تلك القبيلة الصغيرة المسالمة. كذلك جاورهم أهل العلايا الراجعين حسب الروايات إلى سلالة رجل يدعى 'الباشا بن علي' أصيل طرابلس وكان الحمارنة يمنون عليهم على اثر مؤازرتهم لهم في القتال ضدّ اغارات ورغمة لهم. وكانوا يستقرون في الزارات حتى بروز نجم الحاج لطيف والتومي الأحول ومناصريهم من باقي الفصائل الأصلية المكونة للزارات اليوم والتي تمكنت من امتلاك الزارات. "أولاد منصور" ومن يليهم لهم الشطر الغربي من القرية، وحيّ "أولاد الأحول" ومن يليهم ولهم الشطر الشرقي. أولاد منصور (اللغامنه) وانحازت إليهم أحياء أخرى أهمّها 'المعاييف' و'البطاينة' و 'الدحامنه' وكلّ هذه الفسيفساء من العروش يسكنون الجهة الفوقيّة من القرية، أمّا 'أولاد الأحول' فكانوا يضمون: 'أولاد عمّار' و'أولاد المخاتير' و'أولاد الحجّاج' و'أولاد عيّاد' وغيرهم. وهؤلاء كلّهم مقيمون في الجهة التحتيّة.
ليست الزارات سوى حلقة من حلقات معارك الحرب العالمية الثانية التي لها أهميّة فرضتها مكانتها الجغرافية المحاذية لمركز القيادة (لخط مارث) وهي التي لا تبعد الاّ ببعض كيلومترات عن هذا المركز الرئيسي للمعارك. ففي صبيحة يوم 19 مارس 1943 تقدمت الجيش الثامن البريطاني الذي وضع خطة اطلق عليها تسمية (opération pugiliste) والتي تقدم اليها القاطع ال50 من جيش المشاة (50e division d’infanterie) البريطانية لتخترق بنجاح خط مارث من جهة الزارات بعد معركة كبيرة. لكنها تراجعت بعد صدّ قوي وهجوم مضاد من(15e panzer division) يوم 22 مارس 1943 وكبدوا الجيش البريطاني المتقدم الهزيمة. لذلك قام القائد البريطاني مونتيغومري بإرسال جيش بقيادة (اليوتنونجينرال) بريان هورركس (Brian horrocks ويسنده القاطع الثاني النيوزيلندي بقيادة بيرنارفريبرغ bernardfreyberg في محاولة للالتفاف والتطويق من خلال دخول هذا الجيش بعد دوران حول جبال ومرتفعات مطاطة. بعد ورود معلومات استخباراتية انّ هذا المجال الحيوي يمكن مونتيغومري من اختراق الخطّ (خطّ مارث) لذلك قام بدعم واسناد جيش بريان بالقاطع النيوزيلندي وقام بالالتفاف حول مرتفعات مطماطة في 27 مارس 1943 وبهجومه على العمود الفقري لجيش الخطّ جعل مهمة الحفاظ على تماسك الخط عسيرة وغير ذات جدوى الا أن قوة الماس (la forces de messe) تمكنت من الافلات من عملية التطويق وهربت اتجاه قابس المدينة. هذا باختصار شديد وموجز. سير المعركة النهائية الفاصلة لخط مارث الاستراتيجيالحربي. ومن هذا المختصر نكتشف اهمّية موقع الزارات في سير المعارك بين برية وجوية فمدفعية الالمان الثقيلة المضادة للطائرات الحربية لا تزال منصتها الاسمنتية في (الشعبة) تشهد على حدة المعارك وما يزال بحر الزارات في تلك الجهة (أي مقابل وعلى أحراش الشعبة) يحمل اثار القنابل التي خلفتها الحرب في الشاطئ حيث تكثر حفر الموت التي يغرق فيها المصطافين الغير عارفين بالمكان واسراره.
وما هذا النصب الذي افتتحنا بصورته هذه المقالة سوى نصب الذين سقطوا في المعارك من الجند المشاركين فيها. أقامه عسكريّ بريطانيّ كان دأب على زيارة المكان في كلّ موعد ذكرى المعارك ليخلّد موت رفاقه في أرض المعركة. قبل أن يغيب تماما منذ بعض سنوات قليلة وأظنه توفي.
*الشّاعر الّذي أقسم بانتصار الثّوار*
*ورقات من تاريخ تونس الشّعري*
*شهيد الكلمة الحرّة الواعية والفاعلة*
المختار اللغماني.
(1372-1398 هـ) ( 1952 - 1977 م)
سيرة الشّاعر:
ولد في قرية الزارات (قابس) بتونس، وتوفي في تونس (العاصمة) وهو لا يزال في نضرة شبابه. قضى حياته في تونس. تلقى علومه في المدرسة
الابتدائية بقرية الزارات (1958 - 19644)، ثم التحق بمدرسة قابس الثانوية، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1970، ثم قصد تونس العاصمة، فالتحق بكلية الآداب، قسم اللغة العربية، وتخرج فيها عام 1976. عين أستاذًا بمدينة تستور، وتوفي بعد شهرين من تعيينه.
الإنتاج الشعري:
- له ديوان مطبوع بعنوان: «أقسمت على انتصار الشمس» - الدار التونسية للنشر - تونس 1978. شاعر قومي مجدد قلق، كتب قصيدة التفعيلة، في شعره جدل ينشأ عبر تصارع الأفكار الداخلية، بما يعكس نازع المناجاة، كماأن كثيرًا من قصائده تتعدد فيها الأصوات وتتباين مستويات الذات الشاعرة فهي أقرب إلى الحوار، ومجمل شعره يصدر عن وعي يقظ لقضايا الواقع العربي مثل: «الهوية - المصير - الموقف من الآخر»، فضلاً عن اهتمامه بالقضايا السياسية الصريحة مثل القضية الفلسطينية. وإذا كانت قصائده تنطلق من لحظات معيشة آنيًا، فإنها تشتبك بالتاريخ، وتجد فيها شواهد تضيء الحاضر، وتبرر نزوعه الثوري، ورغبته الكشف عن معاناة الإنسان العربي تحت أساليب القهر المختلفة، مبشرًا بغد أفضل، قد تكون صريحة، وقد تتوسل بالرمز، وربما نجد في شعره أصداء لكبار شعراء الحداثة أمثال صلاح عبدالصبور ونزار قباني.
*الحديث عن فلسطين*
يتعمّق جرحك إثر كلّ هزيمة
يتكشّف عن سحر الأجداد..
وشعر الأسياد..
وإذا أنت..
كما كنت...وليمة !!!
* قصيدة: حفريات في جسد عربي
– 1 لا تهدر حلمي باسم الله وباسم الدين وباسم القانون ولا تذبح قلمي ” كلماتك حمرا ” قال.. فما لون دمي؟ ! إنّي أشهد بحمام العالم بالزيتون المطعون وبالبحر المسجون وبالدنيا وأنا أعرف ليس على الدنيا أحلى أو أغلى من هذي الدنيا أشهد أنّي عربيّ حتّى آخر نبض في عرقي عربيّ صوتي عربيّ عشقي عربي ضحكي وبكائي عربي في رغباتي الممنوعة في أهوائي عربي فيما أشعر عربي فيما أكتب لكن العالم أرحب لكن العالم أرحب!
-2-
عربيّ وأبو ذرّ جدّي حين يطول اللّيل ويدهمني حزني وأنا طفل معلول يبسم لي ويقول: ” يا ابني وسّد قلق اللّيل إلى حضني ! ” أتدثّر بين عباءته أتدفّأ عند سماحته أتوسّده يتوسّدني ويهدهدني وأقول له: ” علّمني الفرحة يا جدّي أمنح إسمك من عندي ! ” فيعلّمني ويعلّمني ويعلّمني ويصير لقانا في ” الرّبذة ” (1) أجمل من كلّ كراسي العفن!!
– 3-
عربي والحلاّج أبي في يوم مجروح بالأمطار كان الجلاّدون يقودونه موثوقا نحو النّار كم كان جميلا في جبّته كم كان عظيما في هيبته كنت أنا في الساحة صحت : ” لمن تتركني يا حلاّج ” والمطر الغاضب لم يفلح في تحريك الأمواج والبحر سيبقى بعدك مسجونا محزونا ! ” نظر إليّ بغضب الواله . كان غضبه حنونا قال :
” أتبكي هل علّمتك أن تبكي إنّي يا ولدي أدفع روحي والجبّة حطبا آخر للنّار المشتعلة روحي والجبّة بين يديك لا تبك ولا تهرب وافتح في ناري عينيك وتعلّم أنّ النّار تعيش على حطب الفقراء حتّى تترعرع يوما تتغذّى فيه بحطب القتلة ! ” صحت به :
” معك الله سيأمرها كوني بردا وسلاما ! ” قال :
” يا ولدي : لا يخدعك الأمل الكاذب لا تحمل من أجل العشق سلاحك أوهاما تعرف يا ولدي أنّ الجبّة آخر حصن للرّبّ تدفّأ فيها أعواما . تعرف يا ولدي أنّ الرّبّ الآن سيحرق في الجبّة.. أو فانظر..انظر فوق الغصن هناك إلى الرّكن الأيسر في الساحة ذاك العصفور المقرور تساقط منه الريش وكسّر صيّاد في البرد جناحه بعد قليل يذبحه جنديّ حرّاسه خذه يا ولدي واطعمه حبّة قمح وامسح بالزيت على رأسه وأطلقه نهار تعود الشمس وتورق أغصان الأشجار فذاك هو الرّبّ وإنّي أسمع في الروح نواحه ! !
– 4 –
عربيّ وأبو نوّاس الملعون المغبون نديمي
في أيّام الغربة ندخل كلّ مساء بارا شعبيّا نشرب نشربنشرب حتّى يصبح ” رأس الدّيك حمارا وحشيّا ” نتسكّع في ماخور مدينتنا و” تزقّ ” علينا الأطيار بباب البحر ونغافل شرطيّا في نهج الحرّيّة لنبول على الأرصفة الحجريّة ونغنّي أغنية شعبيّة ونقول الشّعر وندين الكتب الصفراء وشعر التحنيط ومن يقفون على الأطلال بكاء لا يمنح خبزا لرعيّةكان أبو نوّاس يقول : ” ما أكذب هذا التاريخ يبقى منه الوجه الزائف والوجه الآخر للتفسيخ ! ” قلت له يوما : ” لكن على عهد خليفتكم هارون فما وجه العالم ولقد كان الخلف الصالح والسّيف العادل والحاكم و نهار يسير من القصر إلى السوق على فرس أبجر كان الجمهور يصيح ليحيا هارون ! ” قال : ” ما كان يصيح سوى تجّار السّوق والمحترف مغازلة البوق وخليفتنا لم يفتح شبرا من أرض الله ولكن الفاتح جيش الفقراء وخليفتنا لم يفتح غير دكّان الخمر صباح مساء وخليفتنا لم يفتح غير سجون ! تسألني عن هارون : هارون هو القصر وحرس القصر وخصيان القصر وجواريه و المدّاحون هارون هو السيف المشرع في يد جلاّد يدعى ” مسرور ” فالضاحك في الشّارع دمه مهدور والهامس في الشّارع دمه مهدور ! ! ” في الفجر أبو نوّاس يودّعني و هو يغنّي وغنائه دوما محزون ” لئن عمرت دور بمن لا أحبّهم لقد عمرت ممّن أحبّ السجون ”
– 5-
عربي فاجأني يوما غيفارا لم يطرق بابي لم يستأذن حرّاس حدود في حمل العشق المستورد كالطائر يرحل عبر فصول العام وحيث يرى الشمس يغرّد غيفارا عصفور شمسي المولد غيفارا عصفور كسّر بيضته و مدّ جناحيه نحو الشمس غيفارا عصفور يسقط كلّ الأنساب الدينيّة أو أنساب الجنس غيفارا عصفور يحمل غصن الزّيتون بمنقاره وعلى الجبهة نسب العشّاق غيفارا عصفور يعرف حزن النفط العربي ووجع الصحراء غيفارا عصفور حين يجوع معي في الرّبع الخالي ألقاه عربي الأمعاء غيفارا عصفور يبحث في الرّبع الخالي عن قطرة ماء غيفارا علّمني ذات مساء : ” كن عربيّا فيما تشعر كن عربيّا فيما تكتب لكن لا تنس بأنّ العالم أرحب لا تنس بأنّ العالم أرحب !!
– 6 –
عربي يتلاقى في روحي كلّ الثوّار فينتسبون لعائلة واحدة ويجيرون جميع الغرباء يتوحّد هوشي منه مع الله.. والحلاّج يوحّد لغما والجبّة تحت لباس فدائي يرقص لوممبا في الجبّة أحلى الرقصات الإفريقيّة.. و يصلّي غيفارا في الصحراء صلاة الإستسقاء ! !
– 7-
عربي روحي عصفور يرحل كلّ مساء فوق المدن العربيّة يتعب في مصر . يحطّ على الأهرام فتوجعه الشمس و يعطش .يقع على النّيل ليشرب لكن لا يجد النّيل سوى طين ودماء و بقايا جثث للخيل العربيّة و أناشيد توزّع بالمجان ! يضرب بجناحيه حزينا ما زال كويفيرالأخشيدي العبد هنا و يطير يرى في الأفق سرابا ما كان سرابا .. كانت مكّة .. ما زالت مكّة .. و يحطّ على الكعبة جوعانا .. ليس على الكعبة قمح لحمام يأتي فشيوخ قريش أعطاهم ربّك ذهبا من عمق الصحراء كفاهم شرّ الحرث و هم منشغلون بما منحتهم إحدى الدول الكبرى ثمنا للأطنان من النفط : محطّة تلفزة بالألوان ! ! .. عربي روحي عصفور حين يجيء اللّيل يحطّ على أرض اليمن يرتاح على راحة صيّاد يتعشى عند الفلاّحين و يشرب من حلم الثوّار و ينام وسادته شمس ظفار ! !
– 8-
عربي وعروبتنا إرث كالأرض إذا لم نسق ثراها عرقا وإذا لم نلحس من تربتها تتبرّأ منّا ونكون عناصر تخريب في دمها . عربي وعروبتنا إرث كالأرض وإنّي أشهد أنّ الأرض لخادمها ! هل عربيّ سلطان يملأ بالخمر القصر ويكتب فوق صناديق الوسكي قرآن محفوظ فكؤوس الخمر إذن تصبح آيات ؟ ! هل عربي هذا القائد يجعل من جيشه نصفا يحرسه من غضب الشّعب ونصفا يقتل شيخا ما زال يعانق في القلب فلسطين ؟ ! .. كان ويا ما كان ويا ما كان أرض حرية كرامة وطنية كان نهار فيه الأحلام نمت والشمس تعاكس كلّ الأشجار وتسبح وسط الأنهار وكان هناك فرسان أصيلان : دمشق وبيروت كان ويا ما كان ولكن هذا زمن تصفرّ الشمس به خجلا والأحلام تموت ! أبكيك دمشق بدم كلّ شهيد في لبنان المذبوح أبكيك دمشق بحبّ الإخلاص لأكتوبر حين وقفت معاندة رأسك في وجه الرّيح هذا عصر مسيرات التقتيل وعصر الحملات الحملة إثر الحملة هذا عصر الذبح الوحشي وبالجملة يا حكّام الشرق الكرماء من منكم لم يكشف عن أنيابه حتّى لآن يا حكّام الشرق الكرماء من منكم لم يكشف عن أنيابه حتّى لآن من مازال يوزع ضحكته الصفراء ويبرق في عينيه الجوع الدموي الكامن في الأسنان من منكم لم يسقط بعد قناع الوطنيّة هذه الطفلة مازالت تحمل اسم فلسطين وما زالت حيّة من منكم لم يلق بأشواك الغدر على درب الطفلة تحبو منطلقة من منكم لم يغمد خنجره في جنبيها من لم يشرب من دمها الغائر كالأمطار من لم يسرق جفنا من عينيها من لم يقطع من هذي الوردة ورقة فلقد جاء زمان يتساوى فيه الثوريّون مع التجّار ويبرّر باسم القوميّة تقتيل وتبرّر باسم الدّين السّرقة يا كلّ الحكام المرتزقة يا كلّ الثّوريين المرتزقة
– 9 –
عربيّ وطني في قلبي غابة أشجار تثمر عبر فصول العام وفي قلبي قلب ينبع بالحبّ يضخّ يضخّ وحبّي ماء يسقي كلّ الأشجار منذ البدء تناسل حولك يا وطني الحطّابون لهم رأس فأس ويد منشار قطعوا أغصانك يا وطني لكن جذور الغابة في قلبي لم تيبس … ليس هناك سماء كسماء الإصرار !
– 10 –
عربي عربي أشهد بالصفعة أحملها كلّ صباح من نشرات الأخبار عربي عربي أشهد بالخجل المرّ يحاصرني من شك في بعض رجولتنا من رؤية سوّاح غرباء ألقاهم كلّ مساء في عشّ المحبوبة حين أعود إلى الدّار عربي عربيعربي أشهد أشهدأشهد بالعار ! ! !
– 11 –
عربي واللّيلة يغمرني عشقك أيّتها المعبودة يا كلّ نجوم سموات الكون أضيئي ما عدت بعيدة وأضيئي يا كلّ كواكبنا في الأرض.. فهذه الليلة مشهودة ! كم مارست الموت اليومي بعيدا عن نارك يا معشوقة ورقدت على عمق جراحي واللّيلة تأتين بلا ميعاد أحلى من كلّ الحلوات وأشهى من كلّ الأفراح إنّي ألقى اللّيلة بالعمر على عينيك وأصرخ في الناس جميعا عشّاقا كانوا أو أعداء أشهد أنّي الزرع الخافي في رحم الأرض وأنّك أنت الأرض وأنت الأنواء أشهد أنّي السمك الأصغر في البحر وأنت البحر وأنت الماء آه يا معشوقة هذا الزمن المرّ خذي بيدي مازلت صغيرا أحبو في دربك لكن يملؤني الإيمان زادي جوعي للأفراح وحبّي للأطفال ولقبي إنسان آه يا منقذة النفط من السراق ومنقذة الصحراء آه يا منقذة الفقراء أشهد أنّك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء أشهد أنّك آتية ذات صباح أو ذات مساء وسيكنس نورك وجه الأرض الشرقية وتكونين لنا منّا والجنسية عربيّة ! !
– 12 –
عربي من رأسي حتّى القدمين حول الجبهة تمتدّ الصحراء تطلّ الشمس معاندة بين العينين وعلى صدري آثار سنابك خيل غزاة اللّيل مرّوا في كلّ الأزمنة السوداء السّيل وراء السّبل لكن ما ضاق الصّدر ولا دهسوا أنفي عربي أحمل قمحا وحماما وسلالا من أشعار الحبّ وبحرا في كفّي عربي أحمل في جسدي جوع عصور أحمل عطش قرون لكن يبقى حول الجبهة غصن الزيتون وأنا أبقى عربيّا في ما أشعر عربيّا في ما أكتب وأعانق وجه العالم كلّ صباح يكبر حضني أكثر فالعالم أرحب العالم أرحب العالم أرحب ! !
مع أجمل تحيات
المختار المختاري
الزاراتي
2022
Commentaires